حاجة السوق الخليجية المشتركة إلى الاقتصاد المعرفي
نعيش العالم اليوم واقعا متغيرا جديداً يمتاز بالديناميكية وسرعة التغير واتساع المفاهيم، وتحكم هذه المفاهيم توجهات التكتلات الاقتصادية الكبيرة وقوة الإعلام والثورة المعلوماتية والثقافية, وهذا ما انعكس بطبيعة الحال على السلوك الوظيفي للعلوم التي تطورت خلال القرن الماضي وأخذت تتسع في تفصيلاتها وتشعباتها الدقيقة لتواكب ما حدث من تسارع في تغير المفاهيم والوسائل, ولا سيما في عالم الاقتصاد والأعمال, تعد المعرفة knowledge أحد عوامل الإنتاج الحديثة المهمة لإنشاء الثروة في الاقتصاد الحديث بعد أن كان الاقتصاد التقليدي يعتمد في تحليله بتكوين الثروة على عوامل الإنتاج الرئيسة وهي: الأرض والعمل ورأس المال, لقد ظهر الاقتصاد المعرفي أو ما يعرف بالاقتصاد الجديد عقب الثورة الصناعية وثورة الاتصالات ويعد تنظيم وخدمات المعلومات, وهو من أهم العناصر الأساسية المكونة له, فهل يعد الاقتصاد المعرفي ندا للاقتصاد التقليدي؟
المعرفة اليوم هي رأس المال والمعرفة عبارة عن بيانات ومعلومات وإرشادات وأفكار يمتلكها المجتمع الإنساني, يستفاد منها في توجيه السلوك البشري فرديا ومؤسسيا في مجالات النشاطات الإنسانية المختلفة, وبذلك تعد المعرفة حالة إنسانية أرقى من مجرد الحصول على المعلومات التي أصبحت في عصر الاتصالات, وهي تنطوي تحت سيل كبير ومتسارع من المعلومات والأرقام, وإن كانت متاحة أمام الجميع لكن من يستطيع أن يستغلها بجدارة ويميز الغث من السمين؟
تتسم المعرفة من الناحية الاقتصادية بخصائص أصبحت تمثل الإطار الفكري لاقتصاد المعرفة فقد أدت الثورة المعلوماتية والاتصالات الحديثة إلى تغير واسع في إدارة المعرفة وإدارة الاقتصاد الحديث, هذا الاقتصاد الذي يعتمد بشكل أساس على المعلومات والرقميات والبرامجيات، الأمر الذي أدى إلى تغير في منهجية وأدبيات الاقتصاد تجاه الاقتصاد الصناعي الحديث, ما حدا بالمفكرين والاقتصاديين إلى إطلاق أسماء جديدة على هذا النوع من الاقتصاد منها الاقتصاد الرقمي، اقتصاد المعلومات واقتصاد المعرفة، وحيث استحوذ هذا النوع من الاقتصاد على عديد من التعريفات ولكن التعريف المتفق عليه لدى البنك الدولي هو أنه: (الاقتصاد ذو القدرة على خلق معرفة جديدة لدى الأفراد والمجتمعات والشركات والاستفادة الاقتصادية من جدوى المعرفة الجديدة, سواء كانت براءة اختراع أو قدرات, ما ينتج عنه زيادة في الإنتاجية والتنافسية, سواء العالمية أو المحلية والتنمية المستدامة), وبسبب التغيرات البنيوية التي حصلت في الفكر الاقتصادي التي أدت بالنتيجة إلى قيام نظام اقتصادي دولي جديد قد لا يتحقق بالسرعة التي تطور فيها الاقتصاد المعرفي, وذلك بسبب أن البيئة الصالحة لانتشار هذا النوع من الاقتصاد لم تكن مهيأة في السابق، ولكن الآمال لا تزال معقودة إلى ولوج نظام اقتصادي دولي جديد ينقل الاقتصاد الكلي من التحليل الكنزي التقليدي إلى اقتصاد المعلومات أو الاقتصاد المعرفي الحديث, نظراً لما تعنيه المعرفة من شمولية أكثر من المعلومة، فالمعلومة تبقى جزئية من عالم المعرفة ولذلك نجد أن تكنولوجيا المعلومات هي أوسع من التكنولوجيا الرقمية, فالاقتصاد الرقمي يدخل ضمن هذه التسمية, وبالإمكان الإشارة إلى أن تكوين الثروة انتقل من المواد والأبنية والآلات إلى المعلومات المعرفية والبرامجيات الرقمية, لذلك رجح استخدام الاقتصاد الرقمي على الأسماء الأخرى.
إن الاقتصاد الرقمي ما زال لم يستكمل تطوره من حيث المنهجية المفاهيمية أو من حيث أدوات التحليل، وإن هذه التحولات ما زالت مستمرة من أجل استكمال أسس الاقتصاد الجديد بمبادئه وقوانينه ليصبح ما يطلق عليه اليوم الاقتصاد المعرفي الذي يركز على استخدام التكنولوجيا في الأنشطة الاقتصادية ما يزيدها كما ونوعا ويرفع الإنتاجية والقدرة على المنافسة وينتج قدرا أكبر من الإبداع والابتكار, كما أن هناك مشاريع مهمة ذات علاقة بالتحول إلى الاقتصاد الرقمي من أبرزها مشروع تطوير الخدمات والمنشآت الصغيرة والمتوسطة ومشاريع مشابهة أخرى, لذلك يجب التركيز على تحــــــديد أفضل الســـــــبل المتاحة للوصـــــول إلى الاقــــتصاد المعرفي وتحديد الخطوات العملية لذلك.
لقد تميزت علوم هذا العصر بظاهرة الطفرة بعد أن كثرت التطورات والمنعطفات العلمية ذات الطابع الثوري, خصوصا في المجال المعرفي، وهي ظواهر ومنجزات غيرت مسار كثير من الأدبيات والمعارف إلى ثورة موازية في مجال البحث العلمي, ولم يكن غريباً أن تتجه الشركات والمؤسسات نحو إدخال عنصر البحث العلمي في هياكلها التنظيمية مع استمرار تعاونها الجاد مع الجامعات ومراكز ومؤسسات البحث العلمي المحلية والخارجية, وقد مر البحث العلمي بعدة مراحل تنظيمية حسب الظروف والإمكانات المتاحة وإن ظل الهدف هو تسخير البحث العلمي وتوظيفه لخدمة المجتمع وإثراء العلوم والمعارف وتطويع التقنيات وتطويرها, لأنه في الوقت الحالي أصبح البحث العلمي في الجامعة مهيئا أكثر من أي فترة سابقة لتحقيق تلك الأهداف، وذلك من خلال التنظيم الإداري المحكم والدعم المالي المستقل تكمن الحاجة إذن إلى وضع الاستراتيجيات والخطط الخاصة بالبحث العلمي في الدول الخليجية والتنسيق بين جميع جامعاتها والكليات ومراكز البحوث. إنني لعلى ثقة كاملة بأن دور الاقتصاد المعرفي يعد عاملا أصيلا ومحركا حقيقيا للسوق الخليجية الفتية ودفع عجلة التطور في الدول الخليجية كافة بما يدعم قدرة المجتمع على الإسهام النشط في الاقتصاد المعرفي الذي هو الآن سمة البلدان المتطورة. إن اقتصاد المعرفة حل مثالي للانتقال إلى عصر شركات الصناعات الصاعدة التي تعتمد على المعرفة والتكنولوجيا وعلى القيمة المضافة العالية بدلا من الاعتماد على المواد الأولية, إذ أصبح في الإمكان بناء شركات ضخمة بالاعتماد فقط على المعلومات كمكون وحيد لها, لقد أصبح دور وزارات الاقتصاد الخليجية الآن أكبر من ذي قبل باعتبار أن مسؤولياتها أصبحت ضبط الأسواق وتهيئة الاقتصاد لآليات السوق وتعزيز القدرة التنافسية وتحرير التجارة الخارجية بما يؤهل الدول الخليجية للدخول في الشراكات الإقليمية والعالمية المنتظرة, وهذا هو أهم بكثير من تدخلها في الاقتصاد بشكل مركزي كما كان مقترحا في السابق.
الاقتصاد المعرفي أو بناء الاقتصاد المبني على المعرفة يتطلب مزيدا من الإصلاحات في مجال التعليم والتدريب وبيئة الأعمال جنبا إلى جنب مع قطاع خاص مبدع في استراتيجية سوق العمل وتنافسية كفؤة في الاقتصاد المحلي والمشاريع الصغيرة والمتوسطة. الإصلاحات التي تبنتها البحرين مثلا لإصلاح التعليم والتدريب تعد خطوة مهمة في هذا المجال, لكن يجب أن تتوجه المؤسسات الكبيرة, إلى جانب دعم المشاريع الخيرية, إلى تمويل المبدعين والمبتكرين ومساعدتهم على تأسيس شركاتهم الخاصة, فحينما تكبر هذه الشركات ستكون ذات أهمية كبيرة في دعم مسيرة المعرفة الاقتصادية. كثير من القرارات اتخذت في السابق وكانت غير صائبة على الرغم من توافر التمويل اللازم ولكن ندرة المعلومات المفيدة جعلت النجاح بعيدا, لذلك يجب التركيز على ابتعاث الطلاب والمتدربين في هذا المجال, ومن أجل أن تقف السوق الخليجية المشتركة على رجليها كقوة إقليمية ذات نفوذ أمام التكتلات الاقتصادية العالمية يجب أن تتقن ولوج هذا المجال, لقد تبدلت أسلحة العالم, فلم يعد السلاح النووي أو العسكري مجديا في غياب المعرفة والتحليل العلمي - المعرفة هي القوة, والقوة هي المعرفة.