إعلان إسطنبول وتجسير انقسامات المياه
انعقد في آذار (مارس) الماضي منتدى المياه العالمي الخامس تحت شعار "تجسير الانقسامات المرتبطة بالمياه"Briding Divides For Water, أو بمعنى أكثر وضوحاً إقامة جسر للتواصل للانقسامات والانشقاقات الناتجة بحكم الاختلاف في الآراء أو الأفكار المختلفة بخصوص المياه. وشهد المنتدى حضورا مكثفا في تظاهرة سياسية اقتصادية علمية غير مسبوقة تضم رؤساء دول ووزراء مسؤولين وشخصيات دولية, وعلماء مياه ورجال مال وأعمال, من المهتمين بشؤون المياه وهمومها من أكثر من 100 دولة.
وناقش المجتمعون موضوعات مهمة تتعلق بتقليل المخاطر الناجمة من التغيرات المناخية التي شهدتها الكرة الأرضية خلال السنوات الأخيرة, وسوء إدارة أحواض المياه عبر الحدود, وضعف الإجراءات التي تتم من قبل الدول لحماية أنظمة المياه الطبيعية, وماهية القيم الأخلاقية للتعامل مع المياه ومرافقها. وتم خلال جلسات المنتدى المطالبة بضرورة إيجاد وسائل تمويلية لمشاريع خدمات المياه والصرف الصحي في الدول الفقيرة اقتصادياً – ذات الدخل المنخفض – والتأكيد على إعداد استراتيجيات لجميع الدول لتفعيل مؤسساتها المائية لتكون قادرة على تحقيق أهداف التنمية الألفية MDG واتفق المشاركون على أهمية تعليم المياه وزيادة حصيلة المعرفة والتقنية كضرورة ملحة لحل مشكلات المياه في القرن الحالي. واختتم المنتدى بإعلان إسطنبول 2009 الذي أكد بصورة قاطعة ضرورة سن تشريعات تمنع الحروب المائية مستقبلاً وتحد من الانقسامات بين الدول المتجاورة. وأشار الإعلان إلى ضرورة إعطاء الأولوية لتمويل مشاريع المياه وزيادة مجالات التعاون والتنسيق بين جميع الدول المشاركة لحل الخلافات الحدودية على المياه واستخدامات الأراضي من أجل المحافظة على المخزون المائي لمصلحة الأجيال المقبلة.
وعلى الرغم من هذا الكم المتضمن في الموضوعات المطروحة في فعاليات جلسات المنتدى التي استمرت لمدة ستة أيام متصلة, فإن أوراق العمل لم تتضمن مناقشة صريحة عن النزاعات والقضايا المشتركة التي تواجه الدول في صراعها على حقوقها في مواردها المائية. كما أن الإعلان الختامي لم يعكس بإيجابية شعار المنتدى الذي يهدف إلى إيجاد جسور للتواصل بين الأفكار والآراء المختلفة كوسيلة (سلمية) للحد من الانقسامات بين الدول ذات أحواض المياه المشتركة. وفي هذا المجال لا بد من الإشارة إلى أن الأسس العامة للتعامل مع المجاري المائية الدولية للاستخدامات غير الملاحية سبق أن حُددت في إطار دولي عام 1997 من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة بإقرار اتفاقية إطارية Framework convention بأغلبية 104 دول في وجود 30 دولة أخرى ممتنعة عن التصويت من بينها مصر وفرنسا ودول معارضة منها الدول المضيفة تركيا ودول أخرى مشاركة في فعاليات المنتدى .. والخلاصة أن هناك صعوبة في تنفيذ هذه الاتفاقية وتطبيق بنودها حيث ترى تلك الدول أن بعض البنود تتسم بالعمومية ـ مثال ذلك مبدأ الاقتسام العادل والمنصف للمياه ـ وغالباً ما يتم التفسير لبنود الاتفاقية لمصلحة طرف على حساب طرف آخر. مع العلم أن النصاب القانوني للتصديق النهائي على الاتفاقية لم يكتمل بعد حتى من الدول الموافقة. وإذا كان الأمر بالنسبة لاتفاقية دولية مضى على إقرارها أكثر من عقد كامل فمن المؤكد أن الدول المشاركة في صياغة إعلان إسطنبول 2009 ستغض الطرف عن مضمونه إذا لم يتوافق مع متطلباتها.
من ناحية أخرى, فإن الشواهد تؤكد أن بعضا من الدول المشاركة في فعاليات المنتدى تمارس نوعاً من القرصنة المائية Water Piracy على جيرانها دون رادع دولي أو وازع أخلاقي معتمدة على قوتها السياسية أو هيمنتها على الموارد المائية عسكرياً, ومنها دول لا تعترف أيضاً بالاتفاقيات أو البروتوكولات السابق عقدها خاصة تلك التي أبرمت في عهود الاستعمار. وهذه الدول معروفة على الساحة الدولية ومنها دول في الشرق لأوسط ووسط إفريقيا, وهي تنظر إلى موضوع المياه باعتباره خطا أحمر لا يمكن مناقشته من قبل باقي المستفيدين. وعلى ذلك فإن النظرة المستقبلية لأوضاع المياه دوليا تبدو إلى حد ما متفائلة, بعد أن تم استبعاد الفكرة التي سادت في القرن الماضي عن توقع حروب المياه من ذاكرة التاريخ, وهناك قناعة أن ما يحدث في العلاقات المائية السائدة بين الدول مجرد انقسامات لا ترقى لدرجة النزاعات أو الخلافات Conflicts وأن المطلب المُلِح هو بناء جسر للتواصل فيما بينها, ويدعم هذه النظرة المتفائلة ما حدث أخيرا من تطور ملحوظ في العلوم الناشئة المعنية بالمياه, مثل العلوم التي تبحث في مياه النانو Nanowater أو الحاسب الكمي Quantum Computing التي سيكون لها ـ بإذن الله ـ دور مهم في إدارة المياه في الغد.