الاقتصاد الأمريكي بين مخاوف انفلات التضخم وسحب التحفيز .. هل حان موعد الفطام؟

الاقتصاد الأمريكي بين مخاوف انفلات التضخم وسحب التحفيز .. هل حان موعد الفطام؟
زيادة أسعار الفائدة مرهونة بعودة الاقتصاد الأمريكي إلى الحد الأقصى من فرص العمل.
الاقتصاد الأمريكي بين مخاوف انفلات التضخم وسحب التحفيز .. هل حان موعد الفطام؟
جيروم باول

قبل أيام وفي خطابه السنوي عن السياسة المالية للفيدرالي الأمريكي، أعلن جيروم باول رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي أو البنك المركزي الأمريكي، أنه قد يبدأ في تخفيف وتيرة شراء الأصول هذا العام، مع مراقبة المخاطر المتطورة لفيروس كورونا.
لكنه في الوقت ذاته صرح أيضا قائلا "سنواصل مشترياتنا من الأصول بالوتيرة الحالية حتى نرى مزيدا من التقدم الكبير نحو تحقيق أهدافنا القصوى للتوظيف واستقرار الأسعار".
كلمة جيروم باول التي جاءت في حديثه لتجمع افتراضي لمحافظي البنوك المركزية، كانت أكثر وضوحا عندما تعلق الأمر بالاتجاهات المستقبلية لأسعار الفائدة، مؤكدا أن الفيدرالي الأمريكي ليس في عجلة من أمره لرفع الفائدة، على الرغم من الارتفاع الأخير في التضخم.
ورهن باول الزيادة بعودة الاقتصاد إلى الحد الأقصى من فرص العمل، وعودة التضخم إلى الهدف المعلن بنسبة 2 في المائة.
لا شك أن تصريحات محافظ البنك المركزي الأمريكي كانت أقل تشددا بكثير مما توقعته الأسواق الأمريكية، ولهذا ظهر تأثيرها الفوري في الأسواق، إذ قرأت البورصات الأمريكية التصريحات بشكل إيجابي، حيث سجلت أسعار الأسهم مستويات قياسية جديدة، ووصل كل من مؤشر S&P 500 ومؤشرات أسعار سهم بورصة ناسداك التي تهيمن عليها التكنولوجيا إلى قمم جديدة، كما انخفض سعر صرف الدولار والعوائد على سندات الخزانة.
ويعود هذا التحسن إلى أن الأسواق الأمريكية كانت مهيأة لتوضحيات جيروم باول عن خططه للبدء في تقليص الدعم الذي يقدمه الفيدرالي للاقتصاد الأمريكي من خلال برنامج شراء الأصول، لكنه بدلا من ذلك تبنى تصريحات حذرة، متجنبا أي تعليق يفهم منه أو يستشف تشددا مفرطا من جانبه تجاه تخفيف سياسة التيسير الكمي، يمكن أن يكون ضارا بشكل خاص بالتوظيف.
لكن بعيدا عن ردود فعل الأسواق - على الرغم من أهميتها - فإن السؤال الذي بات مطروحا الآن بين الخبراء والأكاديميين ينصب على أبعاد السياسات التي كشفت عنها أعلى سلطة مالية في الولايات المتحدة، ومدى مساهمتها في تدعيم الآمال الراهنة بمواصلة الانتعاش الاقتصادي الأمريكي، أم أنها قد تؤدي إلى القضاء على تلك الآمال خاصة مع تأكيد رئيس البنك المركزي الأمريكي بأنه سيظل يتوخى الحذر، بما قد يوحي بريبة بأن مقومات الانتعاش الحالي غير ثابتة ولا تقوم على أرضية مستقرة، ما يتطلب من الفيدرالي الأمريكي مراقبة الوضع بمزيد من الدقة.
من جانبه، أشار الدكتور أرثر كينج الاستشاري السابق لمحافظ بنك إنجلترا إلى أن جيروم باول ووفقا لوسائل الإعلام الأمريكية ذكر في خطابه كلمة التضخم 82 مرة، كما ركز بشكل واضح على أن هناك تقدما كبيرا نحو تحقيق الحد الأقصى من فرص العمل، ويكشف ذلك بوضوح طبيعة رؤية باول لمفهوم الانتعاش الاقتصادي، والخطر الذي يعتقد أنه يمكن أن يؤدي إلى تآكل ما تحقق من نجاحات.
وقال لـ"الاقتصادية"، إنه "وسط دلائل على أن الانتعاش الاقتصادي الأمريكي بدأ يترسخ، فإن الجدول الزمني لإنهاء مشتريات الأصول موضوع نقاش، وقد حقق الاقتصاد الأمريكي في تموز (يوليو) مزيدا من التقدم نتيجة التوظيف القوي، ومعدل البطالة في الولايات المتحدة حاليا 5.4 في المائة بانخفاض حاد عن العام الماضي، ولكنه لا يزال بعيدا عن مستويات ما قبل الوباء، ومن ثم فإنه يمكن قراءة تصريحات جيروم باول على أنه يدق الناقوس لإنذار الأسواق بأن قطار خفض مشتريات الأصول سيتحرك قريبا، وعلى الأسواق أن
تستعد".
ويضيف "أعتقد أن الانتعاش الاقتصادي الأمريكي سيتواصل ولن يصيبه الضرر نتيجة سياسات الفيدرالي الأمريكي، فحزمة التحفيز التي طرحتها إدارة بايدن وأقرها الكونجرس التي تقدر بـ 1.9 تريليون دولار، إضافة إلى حزم التحفيز السابقة في عهد إدارة دونالد ترمب تضمن بشكل كبير أن التخفيف التدريجي للفيدرالي الأمريكي من سياسة التيسير الكمي لن يؤثر سلبا في الانتعاش الاقتصادي".
لدعم التعافي الاقتصادي للولايات المتحدة من وباء كورونا كان الاحتياطي الفيدرالي يشتري شهريا ما قيمته 120 مليار دولار أمريكي من الأصول، منهم نحو 80 مليار دولار أو أكثر من سندات الخزانة وما لا يقل عن 40 مليار دولار من الأوراق المالية المدعومة.
وتظهر محاضر اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة، أن المسؤولين ناقشوا تقليص مشتريات الأصول قبل نهاية 2021، يدفعهم في ذلك تطور الاقتصاد الأمريكي على نطاق واسع وفقا لما كان متوقعا، خاصة أن أرباب العمل في الولايات المتحدة أضافوا 943 ألف وظيفة في تموز (يوليو) الماضي متجاوزين التوقعات، بحيث انخفض عدد العاطلين عن العمل في الولايات المتحدة بمقدار 782 ألف، ليصل إجمالي من يعانون البطالة نحو 8.7 مليون شخص.
مع هذا ترى الدكتور لورين سميث أستاذة المالية العامة في جامعة وينشستر أن سياسات الفيدرالي الأمريكي التي أعلنها جيروم باول، التي تتضمن اتجاها عاما لتخفيف سياسة التيسير الكمي تتضمن مجازفة اقتصادية لا مبرر لها في المرحلة الراهنة، وأن عواقبها ربما تكون وخيمة.
وتقول لـ"الاقتصادية" إن "الولايات المتحدة لم تخرج من مرحلة الخطر بعد عندما يتعلق الأمر بوباء كورونا وتحديدا المتحور دلتا، وفي بعض الولايات تتزايد الحالات نتيجة هذا المتحور خاصة بين الأشخاص غير المحصنين، هذا من جانب، ومن جانب آخر على الرغم من إشارة باول إلى أن تقليص مشتريات الأصول لا يعني أن الاحتياطي الفيدرالي سيرفع أسعار الفائدة من مستويات قريبة من الصفر في الوقت الراهن، فإن ذلك قد يكون نظريا".
وتضيف "أما في التطبيق العملي، إذا ارتفع معدل التضخم فلن يكون هناك مفر من رفع أسعار الفائدة، وغالبا هذا ما سيحدث لأن التضخم في الولايات المتحدة وكما أشار جيروم باول وصل إلى 2 في المائة وهو في طريقة لتجاوز هذا المعدل حاليا، وسيشهد الاقتصاد الأمريكي تضخما أعلى من المستهدف، والجدل الحالي لا يتعلق بتلك النقطة، وإنما يدور حول ما إذا كان ارتفاع معدل التضخم مؤقتا أم أنه شيء أكثر إثارة للقلق".
وتؤكد أن التمهل ومواصلة سياسة التيسير الكمي بوتيرتها الراهنة، أكثر أمانا للاقتصاد الأمريكي حتى تتوافر المزيد من البيانات ويتضح نطاق التضخم، فالاقتصاد الأمريكي في مرحلة تعافي قد يكون خرج من العناية المركزة، ولكنه لا يزال في المستشفى وفي حاجة إلى توليفة من الأدوية لتمنحه القوة لمغادرتها.
ربما يقرأ البعض في ردة الفعل الإيجابية للأسواق تجاه تصريحات جيروم باول، بأن الأسواق ذاتها تدرك أنها غير جاهزة بعد للتخلي عن سياسة التيسير الكمي، أو رفع أسعار الفائدة، ما يعزز وجهة نظر لورين سميث بحاجة الاقتصاد الأمريكي إلى مزيد من الوقت قبل تغير اتجاه السياسة المالية الحالية.
لكن عددا كبيرا من المصرفيين وخبراء الاقتصاد الكلي يعلنون بشكل صريح أن سياسات التحفيز المالي التي تم تبنيها منذ الأزمة المالية في 2008، قد باتت نوعا من "الإدمان" الاقتصادي يجب التخلص منه في أسرع وقت ممكن، فالتدابير المالية التي تبناها الفيدرالي الأمريكي وسار في ركابها معظم الاقتصادات الكبرى، اعتمدت على أسعار فائدة تقارب الصفر، ومشتريات ضخمة من السندات الحكومية وسندات الشركات.
تلك الآليات بطبعها تعد وفقا للنظام الرأسمالي آليات يعتمد عليها في أوقات الأزمة فقط، والاستمراء فيها لما يزيد على عقد يخل بطريقة عمل النظام ذاته.
يشير الخبير المصرفي والاستشاري السابق في اللجنة المالية لبنك إنجلترا روبرت براون إلى أنه حان موعد "فطام" القطاع الخاص في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من "الإدمان" لإمكانية حصوله على القروض بأسعار رخيصة.
ويقول لـ"الاقتصادية" إن "أسوأ ما يمكن أن يحدث في حال أسرع باول بالتخلص من سياسة التيسير الكمي، أن يتراجع الاقتصاد الأمريكي بشكل مؤقت، لكن التدفقات النقدية الضخمة التي تم ضخها في العجلة الاقتصادية، ستكون قادرة على إعادة تنشيطه، فالجزء الأكبر الذي حصل عليه المستهلكون تراكم في شكل مدخرات مالية ستسهم في تنشيط العجلة الاقتصادية سريعا".
ويعتبر روبرت براون أن تجاوز معدلات التضخم في الاقتصاد الأمريكي معدل 2 في المائة في الوقت الحالي، يجب فهمه في إطار الزيادة الني حدثت في أسعار السلع والخدمات نتيجة أشهر من سياسات الإغلاق، والاضطراب الجاري في سلاسل التوريد العالمية، كما أن الدورة الاقتصادية للاقتصاد الأمريكي لم تكتمل بعد، وباكتمالها ستتراجع معدلات التضخم ويرتفع معدل التوظيف، ويواصل الاقتصاد الأمريكي انتعاشه نظرا لما يتمتع به من مرونة داخلية.

الأكثر قراءة