تجارة السلع المقلدة وحش اقتصادي غير قابل للترويض .. 1.82 تريليون دولار في عام
قبل عدة أيام أعلنت السلطات البريطانية تدمير كميات ضخمة من السلع والبضائع المقلدة، تبلغ قيمتها إذا ما بيعت في الأسواق عشرات الملايين من الجنيهات الاسترلينية.
تضمنت البضائع التي تم تدميرها، كميات ضخمة من الساعات الفاخرة والأقلام الثمينة والنظارات الشمسية التي لا تحتوي على حماية من الأشعة البنفسجية الموصى بها طبيا، والولاعات باهظة الثمن والمحافظ والحقائب الجلدية ومستحضرات التجميل، إضافة إلى المنسوجات والأحذية وغيرها من الأشياء التي تحمل جميعها علامات تجارية فاخرة.
مع كل مرة تقوم فيها السلطات بتدمير تلك الكميات الضخمة من السلع المقلدة يثور السؤال من جديد: ما الضرر الذي يحيق بالمستهلك عند قيامه بشراء تلك المنتجات، وما حجم الخسائر المالية التي تتعرض لها الصناعات والشركات "الأصلية" ذات العلامات التجارية ذائعة الصيت نتيجة انتعاش مبيعات نظيرتها من السلع المقلدة؟
خصوم السلع المقلدة يشيرون إلى أن مواصلة شرائها تدمر سمعة العلامات التجارية الأصلية، وتؤدي إلى انخفاض إيرادات الشركات المنتجة، ومن ثم تقليص عدد العاملين، إضافة إلى أن عملية شراء سلع مقلدة عمل غير أخلاقي في حد ذاته، وربما تصب الحصيلة المالية لعمليات الشراء في منظومة أكبر من الجريمة المنظمة، بما قد يتضمنه ذلك من غسل أموال لعصابات المخدرات أو مهربي الأسلحة.
وإذا تطرق الأمر إلى التبغ أو الأدوية فإن الأضرار والمخاطر التي تتعرض لها صحة المستهلك تبدو شديدة الخطر، كما أنها تتضمن استغلالا وخداعا للمستهلك.
وجهة نظر خصوم السلع المقلدة وما يقدمونه من مبررات اقتصادية تدفعنا إلى التصدي لهذا النوع من التجارة.
لورين أرثر سيدة أعمال ورئيسة جمعية المعايير الصناعية في المملكة المتحدة تعطي "الاقتصادية" تقديرا حول حجم الظاهرة على المستوى العالمي، حيث تقول، "التقرير العالمي لتزييف العلامات التجارية 2018-2020 قدر إجمالي قيمة السلع المقلدة أو السلع المعروفة بنسخة طبق الأصل على المستوى العالمي بـ1.2 تريليون دولار عام 2017، ومن المتوقع أن يكون قد بلغ 1.82 تريليون دولار العام الماضي، ويتضمن ذلك تزوير جميع المنتجات والمعدات من الساعات إلى بعض المعدات العسكرية".
وتضيف "في شهر أيلول (سبتمبر) الماضي أقامت منصة علي بابا الصينية للتجارة الإلكترونية ورشة عمل حول السلع المقلدة، وتبنت الأرقام ذاتها"، وقد أشار تقرير مشترك أعده كل من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ومكتب الاتحاد الأوروبي للملكية الفكرية إلى ارتفاع التجارة في السلع المقلدة والمقرصنة بشكل مطرد في الأعوام القليلة الماضية حتى مع ركود أحجام التجارة الدولية، وبلغت نسبة تجارة السلع المقلدة 3.3 في المائة من إجمالي التجارة الدولية.
وتؤكد أن عولمة التجارة والاتصالات وازدهار التجارة الإلكترونية أتاحتا فرصا لا مثيل لها للجريمة المنظمة للانخراط في تجارة السلع والمنتجات المقلدة وزيادة تأثيرها الاقتصادي.
ما يكاد يجزم به الجميع أن تجارة السلع المقلدة تبدو وحشا اقتصاديا غير قابل للترويض، ليس فقط لأنه يحقق أرباحا طائلة، لكن لأن المستهلكين يدعمونه وبقوة.
على الأقل تلك هي وجهة نظر البروفيسور أدي جونسون أستاذ الاقتصاد الاجتماعي في جامعة برستول، الذي يعلق لـ"الاقتصادية" قائلا "كشفت مجموعة من الأبحاث الحديثة حول سلوك المستهلك أن شراء حقيبة يد مقلدة يتطلب نوعا من إنكار المسؤولية من قبل المشتري، ولا توجد قناعة لدى أغلب المستهلكين من أن شراء حقيبة يد أو حذاء أو ساعة مقلدة من ماركة عالمية سيؤدي إلى أضرار فادحة بتلك الشركات التي تحقق أرباحا بمئات الملايين سنويا".
ويضيف "كما أن الشخص الذي يشتري ساعة رولكس على سبيل المثال بـ20 جنيها استرلينيا يعلم تمام العلم أنها مقلدة وليست حقيقية، ولذلك لا يشعر بالغضاضة والغضب الناتج عن تعرضه للخداع، وغالبا ما يقبل هذا المستهلك أو المشتري أن تلك السلعة لن تدوم للفترة نفسها التي يدوم بها المنتج الأصلي، والمستهلك الذي يشتري سلعة مقلدة بسعر رخيص لا يعد جزءا من القوى الشرائية للسلعة الأصلية باهظة الثمن، أما المشترون الأثرياء القادرون على شراء العلامات التجارية الأصلية فإنهم غالبا ما يكونون على دراية بالفروقات ويحصلون على ما يريدون من الأماكن الأصلية".
ويؤكد أن سوق السلع المقلدة موجودة جنبا إلى جنب مع السوق الحقيقية، بل إن بعض الاقتصاديين يعتقدون أن هذا الوجود يساعد العلامات التجارية بالفعل من خلال تسريع دورة الموضة وزيادة الوعي بالعلامة التجارية.
ويشير البروفسير أدي جونسون إلى أنه لا توجد أدلة قاطعة على أن الأرباح المحققة من بيع السلع المقلدة تمول العصابات الإجرامية المنظمة. لكنه يقر بأن أغلب العاملين في هذا المجال لا يدفعون الضرائب، ولكن ليس للمشتري أي ذنب في ذلك، إنما المشكلة تتحملها أجهزة ومؤسسات مكافحة التهرب الضريبي.
من هذا المنطلق تبدو المشكلة الحقيقية بالنسبة إلى البروفيسور أدي جونسون مرتبطة بالمستهلك الذي يقوم بشراء سلعة على أنها أصلية وهي ليست كذلك. هؤلاء هم من يتطلبون الحماية، إنما الأغلبية العظمى من المستهلكين للسلع المقلدة فهم يعرفون بالضبط ما هم مقدمون عليه ولديهم استعداد لتقبله.
البعض بطبيعة الحال يبرر ازدهار سوق السلع المقلدة عالميا بشعور أغلب المستهلكين بأن العلامات التجارية تفرض أسعارا غير عادلة على منتجاتها وتبالغ للغاية في القيمة السعرية، ومن ثم تستثني قطاعا كبيرا من المستهلكين غير القادرين على دفع ثمن تلك السلعة.
كما أن السلع المزيفة بحاجة أيضا إلى أن يتم تصنيعها وفقا لمعايير معينة، وإلا فإنه لن يتم بيعها، فعملية التقليد تتطلب أيضا مهارة بحيث لا يستطيع المشتري في أغلب الأحوال التفريق بين المنتج الأصلي والنسخة طبق الأصل.
من جهتها، تقول لـ"الاقتصادية" سارة سميث أستاذة علم الاجتماع في جامعة لندن، "تجذب السلع المقلدة الأشخاص الذين يرغبون في الظهور بمظهر يدل على مستوى اجتماعي لا ينتمون إليه ماليا، ومن ثم فإنهم لا يمتلكون الأموال اللازمة للقيام بذلك عبر شراء المنتجات الأصلية، ولذلك يفضلون شراء نسخة طبق الأصل وأرخص".
من وجهة نظر ميلر كريس الباحث في جرائم الاحتيال والتزوير، لا تمكن مواجهة تجارة السلع المقلدة من جانب أخلاقي، وستكون المعركة طويلة وربما خاسرة.
ويؤكد لـ"الاقتصادية" أن السيطرة على السلع الكمالية المقلدة ربما لا تكون في المصلحة العامة اجتماعيا، حيث لا يوجد خطر كبير من شراء حذاء مقلد إذا كان المشتري يعلم ذلك، ويدفع ثمنا يوازي كون السلعة مقلدة، لكن عندما يتعلق الأمر بسلع مضرة بالصحة مثل التبغ أو الأدوية أو بعض المشروبات فإن ذلك يعد جريمة جنائية.
ويشير إلى أن بعض الشركات والعلامات التجارية المشهورة وعلى الرغم من معارضتها العلانية لتقليد منتجاتها، إلا أنها باتت تدرك الآن أن هذا مؤشر على أن علامتها التجارية ناجحة، ما يجعلها تغض الطرف بعض الشيء عما تتعرض له نتيجة تقليد منتجاتها، إذ إن السوق المزيفة قد تعزز السوق الحقيقية، حيث إنها تزيد من الوعي بأهمية العلامة التجارية.
لكن تلك الأفكار لا تروق لعديد من الشركات المعروفة بعلامتها التجارية، كما لا تروق لأجهزة مكافحة الاحتيال والتزوير.
الدكتور أوسكار ريس أستاذ التجارة الدولية والاستشاري السابق في جهاز الشرطة البريطانية الذي سبق أن قدم نصائح بشأن الجريمة المنظمة يقول لـ"الاقتصادية"، "إن الحجم الحالي لإنتاج وسهولة شراء السلع المقلدة غير مسبوق، وعلى الرغم من انتقال مصانع التصنيع من الصين إلى أماكن إنتاج أرخص مثل بنجلادش وإندونيسيا فإن التقديرات تشير إلى أن ما يراوح بين 85 و95 في المائة من جميع السلع المقلدة لا تزال تأتي من الصين".
ويضيف، "الأمر كله يتعلق بالمظهر، ففي الماضي كان دليل الثراء يظهر عبر عدد الخيول أو مساحات الأراضي التي تمتلكها، الآن ارتداء نظارة شمسية أو حمل حقيبة تحمل شعارا معروفا كاف لأن يبدو حاملها ثري، ومن ثم فمن يقومون بعملية الشراء ليسوا سذجا".
وهذا النوع من السلوك يدمر من وجهة نظر الدكتور أوسكار عديدا من الصناعات، بل أحيانا يضر كثيرا بصانعي السلع المقلدة ذاتها.
ويؤكد أن تكاليف إنتاج نسخة طبق الأصل عالية المستوى ستجعل سعر بيعها مرتفعا للغاية، وعند مصادرتها من قبل السلطات، فإن ذلك يعد خسارة ضخمة للمقلدين، حيث إن تكلفة الإنتاج تكون في حالة النسخ طبق الأصل مرتفعة، ولذلك قد يكون أربح ماليا للمقلدين بيع منتجاتهم تحت العلامة التجارية الخاصة بهم، أو حتى بملصق أبيض بدلا من بيع منتجاتهم كنسخ متماثلة عالية الجودة.
لهذا يعتقد الخبراء أنه في صناعة الرفاهية كون المنتج نادرا وأصيلا يعد المحرك الرئيس للنجاح، وإذا باتت السلع الفاخرة شائعة فستتوقف عن البيع.
وعلى الرغم من أن بيع السلع المقلدة أو النسخ طبق الأصل لا يمثل خسارة مباشرة للعلامات التجارية المنتجة، إلا أن تفشي السلع المقلدة أو طبق الأصل يدفع العملاء المحتملين إلى عدم اختيار منتجات أصلية، حيث أنها فقدت بريقها وسمعتها، ولم تعد تعبر عن المستوى الاجتماعي للساعين إليه.
يشار إلى أن مكتب الممثل التجاري الأمريكي أصدر مطلع العام الجاري نتائج استعراضه لعام 2020 لـ"الأسواق سيئة السمعة في التقليد والقرصنة"، حيث بلغت 73 سوقا حول العالم.
ويسلط تقرير مراجعة الأسواق سيئة السمعة في التقليد والقرصنة 2020 الضوء على الأسواق الإلكترونية والأسواق المادية، التي يذكر أنها تشارك في / أو تسهل تزوير العلامات التجارية الكبيرة والقرصنة في مجال حقوق الطبع والنشر.
وقال الممثل التجاري الأمريكي، حينها، في مقدمة التقرير "48 صفحة"، "إن محاسبة منتهكي حقوق الملكية الفكرية وضمان حصول المبتكرين والمبدعين الأمريكيين على فرصة كاملة وعادلة لاستخدام عملهم والاستفادة منه أمر بالغ الأهمية لكل من الأسواق المادية والأسواق عبر الإنترنت".
يتضمن تقرير 2020، وهو الثاني من نوعه، لأول مرة قسما يتناول دور منصات الإنترنت في تسهيل استيراد السلع المقلدة والمقرصنة إلى الولايات المتحدة، وحدد التقرير 39 سوقا عبر الإنترنت.
وأضاف "اليوم، يكمن الخطر الأكبر في استيراد السلع المقلدة والمقرصنة، التي تضر بكل من منشئي المحتوى الأمريكيين وأيضا بالمستهلكين الأمريكيين".
وقال "هذا الخطر لا تفرضه أسواق السلع المستعملة الأجنبية ومواقع الإنترنت المظلمة، بل بسبب عدم كفاية السياسات وعدم كفاية الإجراءات الفعالة من قبل شركات التجارة الإلكترونية، التي تقوم بتسويق وبيع المنتجات الأجنبية للمستهلكين الأمريكيين".
وأشار إلى أن مكافحة القرصنة والتزوير ستتطلب جهدا متواصلا من جانب كل من الحكومة الاتحادية والشركات، التي تستفيد من بيع هذه السلع.
علاوة على معالجته دور التجارة الإلكترونية في تسهيل بيع السلع المقرصنة والمزيفة، يحدد التقرير 39 سوقا عبر الإنترنت و34 سوقا فعلية "بإجمالي 73 سوقا"، قال "إنه يتم الإبلاغ عنها بأنها تشارك أو تسهل تزوير العلامات التجارية الكبيرة وقرصنة حق المؤلف".
وأكد أن نشاط هذه الأسواق يضر بالاقتصاد الأمريكي، من خلال تقويض الابتكار وحقوق الملكية الفكرية لمالكي الملكية الفكرية في الولايات المتحدة في الأسواق الخارجية، ويضر بالمستهلكين الأمريكيين أيضا.