السياسة، والأدب، ونظرية الهرم
كانت العلوم في الماضي متوحدة، لا توجد بينها قواطع كبيرة، أو فواصل ملحوظة فعالم اللغة، فقيه، وله أبحاث في مجال الكيمياء والفلسفة. وعالم الرياضيات، له باع في علوم الفلك والطب. وفي نهايات القرن التاسع عشر بدأت العلوم في التمركز حول تخصصات معينة وآليات عمل وتحليل خاصة، وبدأت تنبثق عنها تخصصات دقيقة فرعية. وهناك من عارض هذا التوجه في تلك الفترة، مثل الناقد والأديب البريطاني ماثيو آرنولد الذي كان ينادي بأن تكون الجامعات مكاناً يتعلم فيه الطلاب جميع العلوم، دون تخصصات معينة، وبعد التخرج لهم أن يتخصصوا فيما يريدون بعد أن يلموا بمبادئ كل العلوم، ويتعمقوا في هذه التخصصات أو يتركوها عن معرفة، لا عن جهل. كان الحديث حول إمكانية تحقق ذلك متاحاً في الماضي، أما اليوم فهو أشبه بالمستحيل نظراً لزيادة تشعب العلوم وتفرقها.
ولكن من جهة أخرى بدأت علوم أخرى في التجمع تحت تخصصات كبرى فنظرية الأدب علم تفرع عن النقد الأدبي، واقترب كثيراً من الفلسفة، وعلم التاريخ، وعلم الاجتماع، وعلم السياسة، حتى حوى هذه العلوم في النظريات المختلفة، وخاصة في العقود الثلاثة الأخيرة. ولو أخذنا فرعاً متخصصاً من فروع نظرية الأدب (مثل نظرية ما بعد الاستعمار) لوجدنا أنها نفسها جمعت عدة حقول، أهمها السياسة، والفلسفة، والتاريخ، وعلم الاجتماع (السوسيولوجيا)، وعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا)، والتحليل النفسي، وفلسفة الاقتصاد، وغيرها من العلوم الفرعية، حتى لم يعد من السهل التفرقة بين هذه العلوم حين تتوحد لتشكيل الكتابات النقدية في نظرية ما بعد الاستعمار، التي تعنى بنقد فكرة المركزية الثقافية الأوروبية - الأمريكية، وتهميشها للثقافات الأخرى، وكيفية إعادة تمركز الهامش في الوسط الثقافي. ويمتد تطبيق هذه النظرية ليشمل الثقافات المحلية ذاتها، وآلياتها في تهميش الثقافات الداخلية التي لا تتوافق مع ثقافة الوسط لتهمشها خارج الدائرة فنظرية ما بعد الاستعمار تعطي الأصوات المهمشة القدرة على الإعادة تمثيل نفسها في الوسط مرة أخرى، لترفض تهميشها على أسس دينية أو مذهبية، أو عرقية، أو ثقافية، أو اقتصادية، أو سياسية، أو طبقية.
ضاقت الفجوة بين السياسة والأدب تحديداً بحيث أصبحا انعكاساً لبعضهما فالمعنى القديم للنظرية السياسية وهو تحقيق العلاقات النفعية بين الدول والجماعات من خلال دراسة آليات عملها. وتم استبدال ذلك في الدراسات الثقافية الحديثة بالأسس النظرية (الثقافية، والفكرية، والفلسلفية) التي تبنى عليها هذه العلاقات.
الأدب والسياسة يبحثان في العلاقات بين المجموعات أو الأطراف المختلفة بغية الوصول لآليات التعبير ومحاولة استيعابها وترجمتها من خلال إدراك مضمونها والرد بما يناسبه. إن الحقلين يبحثان في الاحتواء والاستيعاب بناء على المشترك من القيم والتصورات. يتناول الحقلان الآليات الاجتماعية والثقافية للوصول لقناعات شعبية من خلال قنوات مقبولة ثقافياً. ولكن تهدف السياسة من ذلك في آخر المطاف للحكم والهيمنة، ويهدف الأدب للتحليل والتبرير. تهدف السياسة لفهم الحكومات، وطرق عملها، ويهدف الأدب لتحليل هذا الفهم وطرق عمل الحكومات في المخيلة الشعبية أو النخبوية. تنظر السياسة للهرم الاجتماعي من الأعلى إلى الأسفل لمعرفة القوى النازلة من أعلى الهرم للسيطرة على قاعدته، ويهدف الأدب (حسب الرؤية ما بعد الاستعمارية) لفهم التصورات الصاعدة إلى أعلى الهرم ودور الهرم وسياساته في صياغة هذه التصورات، لتصل في نهاية الأمر لتأثير ذلك في قمة الهرم. الحقلان في تصوري طرفا المعادلة التي تطرح التساؤل الكبير: هل يأتي التغيير من الأعلى أم من الأسفل؟