الصراع الأرمني الأذربيجاني يخلط أوراق التحالفات الدولية
الصراع الأرمني الأذربيجاني يخلط أوراق التحالفات الدولية
انتهى شهر العسل التركي الإيراني، وطغت مصالح التوسع القومي على التقارب المؤقت، المبني على كراهية العرب، عقب تنشيط ساحة صراع جديدة بين وكلاء الطرفين أبعادها دولية، لكن ملامحها مشوهة، بدرجة أكبر من تصفية الحسابات الجارية في المنطقة العربية، إذ عرى الصراع الأرميني الأذري القائم في المنطقة الحدودية بين الدولتين سياسات اللاعبين الإقليميين، الذي تجاوز حدود المذهب والدين والعرق وحتى الجيرة، فإيران الشيعية وقفت ضد الأغلبية الشيعية في أذربيجان، مؤيدة أرمينيا المسيحية، فيما وقف التركي السني إلى جانب الشيعي الأذري في وجه الأرميني، لكن المفارقة هنا أن تركيا، التي تدعي نصرة القدس والفلسطينيين، بدعوتها إلى تقويض جهود السلام في المنطقة كافة، تقف جنبا إلى جنب مع إسرائيل في نصرة الأذربيجانيين، والأغرب من ذلك أن سلاح المرتزقة، الذي تدعم به تركيا الأذربيجانيين، هو مجموعات من المقاتلين السوريين المنتمين إلى المذهب السني، خصوصا بقايا تنظيم داعش الإرهابي وميليشيات الإخوان المسلمين المقاتلة في سورية، للدفاع عن الشيعة الأذربيجانيين، وهم الذين يحاربونهم في بلادهم أنفسهم، بحجة الوقوف مع النظام العلوي كما يدعون، وهم أنفسهم الذين يتهمونهم بإجهاض الثورة السورية، التي قتل فيها مئات الآلاف، إضافة إلى تشريد ملايين من السوريين.
تقاطعت المصالح التركية الإيرانية في سورية على أساس طائفي ظاهري بحت، بحجة نصرة الأتراك للسنة، وكذلك الإيرانيون بدعم نظام الأسد على أنه نظام علوي ذو امتداد شيعي في المنطقة، وكانت الميليشيات المسلحة من كلا الطرفين تقاتل على هذا الأساس، منفذة أشنع وأبشع الجرائم بحق المواطنين السوريين، ومن هذا المنطلق استغلت تركيا الظروف، وحاربت الأكراد في منطقة شمال شرق الفرات، ووجدت عسكريا داخل الأراضي السورية، كما جعلت من مدينة إدلب قاعدة عسكرية متقدمة لها على الأراضي السورية، جاعلة منها مركزا للتدريب والإعداد، تجهز فيه المرتزقة، لنشرهم في مناطق الصراع، التي تديرها إدارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بتمويل قطري، وغطاء ديني من الإخوان المسلمين وقيادات الدواعش هناك، لزجهم في صراعاتها بأقل تكلفة بشرية ومادية سواء في ليبيا أو أذربيجان.
الصراع الأرميني الأذربيجاني صراع قديم جديد، تعود أصوله إلى عشرينيات القرن الماضي، بعد ضم أقليم ناجورني قره باغ الواقع في الأراضي الأذربيجانية، الذي تسكنه أغلبية أرمنية إلى أرمينيا، لكن بعد استقلال الدولتين عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، رفضت أذربيجان استقلال الإقليم، وتبعيته لأرمينيا وسمته بالأذرية يوخاري قره باغ، لكن أرمينيا أطلقت عليه اسما قديما هو ارتساخ، في تحد واضح وصريح للتصرفات الأذرية، لكن المفارقة الأكبر لهذا الصراع هي وقوف روسيا إلى جانب أرمينيا، على الرغم من أن أذربيجان دولة قوقازية، وكانت محل صراع انتماء تاريخي ما بين القيصرية الروسية، والدولة العثمانية، وإيران، لكن ما يميز هذا الصراع دلالات الانتماء الديني والعرقي، إذ تأخذ هذه المواجهة منحى الصراع الديني في حال أخذت الأمور بسطحية، بعيدا عن لغة المصالح، في حين يعدها البعض ذات طابع عرقي وعداوة تاريخية بين الأرمن والأذريين، لكن هل هنالك امتدادات أخرى لهذا الصراع؟
اختلطت الأوراق في النزاع الأرمني الأذربيجاني، إذ لا تقتصر تبعات الامتداد الإقليمي والدولي لهذا الصراع على ما ذكر سابقا، إذ تحظى أرمينيا بدعم يوناني قبرصي فرنسي، خصوصا في فترة حرجة سبقتها توترات البحث عن الغاز من قبل تركيا في شرق المتوسط، كادت أن تشعل فتيل المواجهة العسكرية بينها وبين قبرص، ولولا وساطة ألمانية لتمت المواجهة ونشبت الحرب بين الطرفين، فيما رضخت تركيا للضغوطات الدولية وسحبت سفينتها المتمركزة في عرض البحر للتنقيب عن الغاز، كما يتميز هذا الصراع ببعد تاريخي مليء بالأحقاد وتصفية الحسابات، إذ تتهم حكومة أرمينيا الدولة العثمانية بتنفيذ مجازر بحق أسلافهم وهو ما يعرف بمذبحة الأرمن، التي تنكرها تركيا حتى اليوم، وتحيي أرمينيا ذكراها في كل عام، لتعيش هذه القضية لعقود من الزمن دون أي تسوية أو مصالحة بين الطرفين، ليتجدد الحديث عنها والتذكير بويلاتها كلما تسنح الفرصة، لذلك ما يحدث اليوم هو حرب بين دولتين في ظاهر الأمر، لكنه في باطنه صراع بين عدد من الدول للسيطرة على منطقة يصفها علم الجغرافيا بأنها بوابة آسيا نحو أوروبا، يتجلى فيها حضور إيران وتركيا وروسيا وأمريكا، وعلى الرغم من الانشغال الأمريكي بالانتخابات الرئاسية، إلا أن هنالك دعما خفيا للموقف التركي الأذري، خصوصا أنها وقفت على الحياد الظاهر، رغم موقفها الجوهري في وقف امتداد مناطق النفوذ الروسي، إذ اكتفت بالدعوة إلى منع أي تدخلات خارجية في الحرب الأرمنية الأذرية.
تمقت إيران أذربيجان لأسباب عدة، أبرزها: أنها تعدها جزءا من أراضيها، فأذربيجان المطلة على بحر قزوين، الذي يعد خزانا للنفط والغاز، تعدها طهران تابعة لمحافظة أذربيجان الإيرانية، في حين ترفض حكومة باكو العلمانية الخضوع والانصياع لولاية الفقيه، في الوقت ذاته تخلت طهران عن معتنقي المذهب الشيعي، خوفا من إحياء الأقلية الأذرية في إيران والمطالبة بمزيد من الحقوق أو اللجوء إلى دولتهم الحديثة، وخسارة أجزاء جغرافية إيرانية جديدة لمصلحة أذربيجان، إضافة إلى الحفاظ على العلاقات الاقتصادية المتقدمة بين أرمينيا وإيران، وفي ظل الجفاء الإيراني الأذري تسعى تركيا جاهدة إلى تحويل مذهب الشعب الأذري من الشيعي إلى السني، في ظل حكومة علمانية لا تأبه للمسائل المذهبية.
وترى روسيا في أرمينيا حليفا استراتيجيا واقتصاديا، فتح أبوابه لها لبناء قاعدة عسكرية متطورة على تخوم أوروبا، إضافة إلى امتلاكها نحو 40 في المائة من مجمل الاستثمارات الأجنبية، مقدمة دعمها المطلق لأرمينيا بالحجة الدينية ذاتها التي تقف بها تركيا خلف أذربيجان، وهي الدفاع عن المسلمين بالنسبة إلى أنقرة، والدفاع عن مسيحيي الشرق بالنسبة إلى روسيا، إذ ينتمي الروس، والأرمن واليونان، وقبرص إلى العقيدة المذهبية الأرثوذكسية ذاتها، وفي ظل غياب دور أوروبي حازم لإنهاء التوتر الموجود على أبواب القارة، وتسعى إسرائيل إلى الوجود في الصراع وجني ثماره، إذ تعد أذربيجان العلمانية حليفا قويا لها، خصوصا أن الأخيرة سوق خصبة لشراء الأسلحة الإسرائيلية، إذ بلغ حجم مشتريات صفقات الأسلحة أخيرا نحو خمسة مليارات دولار، فيما تسعى السياسة الخارجية الإسرائيلية إلى تضييق الخناق على العدو الإيراني، من خلال إيجاد نفوذ لها على حدوده، ودعم أذربيجان التي تمثل عرقيتها نحو 40 في المائة من مجمل الشعب الإيراني، في خطوة لزعزعة استقرار نظام الملالي من الداخل، وإيجاد حالة من التوازن في معادلة الانتشار، إذ يوجد النفوذ الإيراني على مقربة من إسرائيل في منطقتين ساخنتين سواء في سورية أو في جنوب لبنان، إذ تعد وجوده هناك تهديدا لأمنها واستقرارها، لتغيير جهود التمدد بالوجود على الحدود الإيرانية والأوروبية، واستغلال الموقع الجغرافي المميز استراتيجيا واقتصاديا، كما تجد إسرائيل في الصراع فرصة لرد الصاع صاعين لروسيا، إذ تتهمها ضمنيا بالوقوف وراء تزويد نظام الأسد والميليشيات المقاتلة بالأسلحة وأنظمة الدفاع الجوي، التي تسببت في إسقاط طائرة مقاتلة إسرائيلية من طراز إف – 16 عام 2019، كما تعدها الجهة المسؤولة عن وجود المسلحين على حدودها، لتحقق من الصراع القائم حاليا على الحدود ما بين أذربيجان وأرمينيا وسيلة ضغط على موسكو، لمقايضتها بذلك في مناطق النزاع، خصوصا أن باكو مصدر مهم لتزويد إسرائيل بالغاز والنفط.
وفي ظل احتدام المواجهة، قالت آنا نجداليان المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأرمنية، في إفادة صحافية، "إن توريد إسرائيل الأسلحة فائقة الحداثة إلى أذربيجان أمر غير مقبول بالنسبة إلينا، خاصة الآن، في ظل ظروف عدوان أذربيجان بدعم تركيا، ومراعاة لذلك، قررت وزارة الخارجية استدعاء السفير في إسرائيل للتشاور"، إذ سبق هذا الإعلان تصريح حكمت حاجييف مساعد رئيس أذربيجان، استخدام بلاده طائرات مسيرة إسرائيلية الصنع في المواجهات العسكرية مع أرمينيا في منطقة قره باغ المتنازع عليها، وتفيد التقارير بأن حصة إسرائيل في واردات الأسلحة إلى أذربيجان 60 في المائة، فيما تزود باكو تل أبيب بكميات ضخمة من الغاز الطبيعي.