تحولات قطاع التجزئة والتوطين

 
يصنف قطاع التجزئة عموما، واحدا من الأعمال التجارية ذات الأهمية، سواء للأفراد أو المنشآت عامة. وتنبع أهمية قطاع التجزئة اقتصاديا، بوصفه حلقة الوصل بين الصناعة في منتجاتها الاستهلاكية، معمرة كانت تلك المنتجات أو غير ذلك، وبين المستهلكين الأساسيين، كما أنه الحلقة الأولى والأهم في دورة النشاط الاقتصادي. وفي تقرير نشرته "الاقتصادية" أخيرا، عن وضع شركات التجزئة، في وقت نحارب فيه بكل قوة سيطرة الأجانب على هذا القطاع المهم في المملكة، وذلك من خلال تنظيم السعودة في السوق، وفرض نسب جديدة لقطاعات جديدة. فهذا التقرير يدعم تلك التوجهات الحكومية بقوة في هذا القطاع المهم، الذي يتركز فيه الأجانب بشكل مقلق، فالعالم أجمع يمر اليوم بمنافسة حادة جدا وتحولات عميقة للغاية، وإذا لم يتم أخذ هذه التحولات في الحسبان للحد من سيطرة وتغلغل العمالة الوافدة في القطاع، وفي هذا الوقت بالذات من مرور العالم بجائحة فيروس كورونا، وانكماش وبطء نمو الاقتصاد العالمي، فإن مخاطر أخرى ستستجد، وصعوبات السعودة ستتفاقم. لذا، لا بد من مزيد من الإصلاحات في هذا القطاع قبل أن تصبح تلك التحديات واقعا ملموسا لدينا. فالتقرير يشير بكل وضوح إلى أن قطاع التجزئة كان الأكثر تضررا من بين القطاعات كافة خلال الفترة الماضية، لكن المسألة ليست ضررا بالمعنى المتعارف عليه، لكنه تأثير مضاعف ممتد من قطاعات أخرى، من بينها السياحة على سبيل المثال، فتوقفها حول العالم أثر بشكل كبير في محال بيع التجزئة.

ويشير التقرير إلى عواصم عالمية كبيرة مثل نيويورك، التي أصبحت نوعا ما مدينة أشباح حينما ذهب جميع السياح ورجال الأعمال بسبب الجائحة. إن المشكلة الأساسية، التي فرضت نفسها على قطاع التجزئة، هي اتجاهات الشركات والحكومات نحو العمل عن بعد، فهذا التوجه صنع تغيرات واسعة النطاق على طلبات المستهلكين في قطاع التجزئة، خاصة قطاع الملابس، فلم يعد أحد يطلب الملابس الرسمية تقريبا، فالعمل عن بعد جعل الجميع يركزون الطلب على الملابس الرياضية والمنزلية خاصة، ما جعل شركات مبيعات التجزئة التي طورت هويتها التجارية بناء على ملابس العمل الرسمية، تجد نفسها اليوم في موقف صعب، وأظهرت أرقام وزارة التجارة الأمريكية انخفاضا بلغ 20 في المائة في مبيعات الملابس في الشهر الماضي مقارنة بآب (أغسطس) 2019، وتزايدت طلبات إعلان الإفلاس لتصل فعليا إلى سلاسل العلامات التجارية الكبيرة من "جيه كرو" إلى "بروكس برذرز" و"لورد آند تايلور".

وعلى الرغم من أنه من الصعب القول إن هذا الاتجاه مستدام، لكن هناك دلائل كبيرة تؤكد ذلك، فقد أصبح العمل عن بعد مجديا اقتصاديا، وليس مجرد استجابة لتأثير الجائحة، فالعمل عن بعد حقق وفرا كبيرا في تكلفة الإيجارات، جراء تقليص حجم المكاتب. وسبق لـ"الاقتصادية" أن قدمت تقريرا عن تأثير سوق العقار في هذا الاتجاه، من تخفيض حجم مكاتب العمل واستبدالها بالعمل عن بعد، طالما أن العمل عن بعد يحقق الإنتاجية نفسها، بل ثبت أن الإنتاجية تحسنت مع هذا الاتجاه.

لهذا، فإن التغيرات في سلوك المستهلكين نحو نوعية الملابس، قد تكون دائمة هذه المرة طالما كانت اتجاهات الأعمال نحو العمل عن بعد قائمة أيضا. وهنا نقطة لا بد من الإشارة إليها إلى أن شركات الملابس القطنية حققت نموا كبيرا في المبيعات، ولهذا فإن التغير في سوق الملابس سيكون مستداما، وستبقى صناعة الملابس المنزلية والرياضية الأكثر حضورا، ما يعني تركزا كبيرا في هذا القطاع، وهو ما يجب علينا الاهتمام به منذ الآن وعدم السماح بتسرب العمالة الخارجة من الصناعات الأخرى لتأكيد سيطرتها على هذا القطاع. لكن التقرير يتجاوز مسألة الجائحة أو صناعة الملابس لقراءة التغير في تفضيلات المستهلكين في قطاع التجزئة، فهناك اليوم اتجاهات عالمية تم رصدها، من خلال تحليل قرارات شراء المستهلكين عبر الإنترنت، تظهر أن الجميع مهتم فعلا بما هو محلي أو ذو انتماء معين، فهناك اتجاه أوسع بين المتسوقين الأصغر سنا يطالبون الشركات التي ينفقون أموالهم فيها بأن تعكس قيمهم، كأن تكون المنتجات المبيعة قد أنتجتها مجموعات عرقية أو محلية، أو تكون تلك المنتجات أكثر استدامة من الناحية البيئية.

وإذا صح هذا الاتجاه، فإنه يجب علينا مراقبة محال التجزئة، التي تبيع منتجاتها من خلال الإنترنت، وأن تكون الهوية السعودية حاضرة بقوة، والثقافة الوطنية، وأن يتم دعم المنتجات والمحال عبر الإنترنت، التي حققت نسبا قوية في السعودة، وإلا فسيتم فرض السعودة في المكان والوقت غير الصحيحين، حيث قد نفرضها في قطاعات يتقلص الطلب عليها، بينما تتجه العمالة نحو تلك التي تحقق نموا، خاصة أن التقرير يؤكد أن هؤلاء المتسوقين الجدد عبر الإنترنت، وأشار إليهم التقرير باسم جيل الألفية وجيل Z "الجيل الذي يلي جيل الألفية"، يبحثون دائما عن القسائم الشرائية، ويجرون مقارنات عند تسوقهم عبر الإنترنت.

حتى إن بعضهم يستأجر أو يقترض السلع التي تحقق له رغباته وانتماءاته بدلا من شراء قطع جديدة، وهذا ظهر جليا في زيادة خدمات الاشتراك التي تسمح للمستهلكين باستخدام وإعادة كل شيء، بداية من الملابس إلى الأثاث. لهذا، يجب أن نفكر في التوطين بطريقة تناسب هذا الجيل الجديد.

المزيد من الرأي