موت مؤسسة الحرب
ما يحصل في غزة في شتاء 2009م مع افتتاح العام بالدم والقتل سوف ينتهي، ولن يطول، وقد يكون آخر صراع عربي إسرائيلي، فبعد أن كف اقتتال الدول العربية مع إسرائيل، وانتقلت الحرب إلى داخل إسرائيل، واحترقت في جنوب لبنان، وهزمت بأسلحة فردية، فهي أقرب إلى المريض الذي كان يعاني التهابا خارجيا، إلى إصابته بمغص كلوي داخلي وهو أشد وألعن.
ولذا فما يحدث في غزة هو خير بكل المقاييس، ومقتل إسرائيل هو خسارة الجنود، وليس عندها استخفاف بمواطنيها كما هو عند العرب؛ عفوا عن التعبير، فصدام حين جاءه وفد قبل حربه الأخيرة، قال: إنه مستعد للتضحية بستة ملايين من العراقيين، فصعق الوفد من الكلام.
ثم خذله جنده وباعوه بدراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين.
ولكن أهالي غزة ليسوا مثل جند صدام بل جنود الرحمن، ولذا فسوف تبوء إسرائيل بالهزيمة والعار ولو انتصرت عسكريا..
وذهل الشباب المغاربة الذين كانوا يسمعون حديثي في مسجد الروضة في مونتريال عندما قلت لهم لقد ماتت مؤسسة الحرب.
وأنا أعترف أنني أبحث في جغرافيا فكرية، مثل من يريد اكتشاف قمر يوربا الذي يدور حول المشتري، ويزعم أن جلده مدرعة جليدية بسماكة مائة كيلومتر.
وهو الشعور الذي استولى علي عندما كنت أشرح للشباب موت مؤسسة الحرب. والحرب تشبه اليوم كائنا يختلج وينتفض، قبل تسليم الروح، مثل الانتفاضات التي تظهر بين حين وآخر في كوسوفو والعراق وأفغانستان.
والإدارة الأمريكية اعترفت بظهور شيء جديد في العالم يختلف عن الحرب التقليدية؛ فالأخيرة سهل شنها، سريع الانتصار فيها، كما كانت ضد النظام الكرتوني في العراق، الذي انهار في أيام قليلة مثل كومة ملح، فاجأه سيل عرم، من مياه متدفقة كالطوفان، من سد انهار وتدفق.
وأما الحرب الجديدة، مع الأشباح الجدد، فيسمونها الحرب الموازية، أي الحرب التي يقودها أشباح، من تنظيمات شبحية سرية، مسلحة بالتكنولوجيا والمعرفة والمال.
وأمريكا تنسى مثلثا خطيرا في فهمها، وهي علاقة (العدل - الأمن - الحريات). فبقدر تحقيق العدل، بقدر شعور الناس بالأمن، وبالمقابل بقدر الأمن، بقدر انطلاق الحريات في المجتمع.
وهي معادلة ساقها الله في نصف آية من سورة الأنعام على لسان إبراهيم فأعطاه الله الحجة البالغة"الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون"
وأمريكا تظن أنها إذا استخدمت العصا الغليظة فسوف تستأصل الإرهاب، والذي حصل أن أمريكا أبدل الله أمنها خوفاً.
وهناك من الرجال المستنيرين ممن يرى أحدهم أبعد من أرنبة أنف السياسيين، أن التعامل مع الشعوب أفضل وأضمن، وأن قيام ديمقراطيات في العالم يبقى أفضل لمستقبل أمريكا، من أن يهاجمها الإرهابيون انتقاما وكراهية.
وهي وصفة حكيمة، ولكن المشكلة مضاعفة؛ فأمريكا تبحث عن مصلحتها، وإذا كانت قد قضت على دكتاتورية صدام، فهي تعين وتساعد وتمد بخيل وركاب وطائرات وتقنيات دكتاتوريي آسيا الوسطى.
ثم إن الديمقراطية نبات ينمو في تربة ديمقراطية.
وهنا يبقى أفضل لأمريكا، وعلى كل مفكري العالم تشجيع واستنبات روح جديدة في بيئات العبودية وهي تتطلب معالجة طويلة.
وهي قضية تحدث عنها الكواكبي طويلا في كتابه طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، حين وضع قانونا ثلاثيا للتخلص من الأنظمة الشمولية.
وكل المشكلة هي كيف تحرر وتطلق الوعي من شباك الخرافة.
وعندما أقول إن الحرب فات وقتها، مثل موت كثير من المؤسسات، عندما يتطور الناس إلى شيء أفضل، مثل علاقة الإنترنت بالفاكس، وعضلات العبد وعضلات الآلة، فهو قانون وجودي، حينما وصف القرآن، أن الزبد يذهب جفاء، وما يبقى هو أنفع دوما.
واليوم تراجع دور البريد، كما أن الفاكس لم نعد نستخدمه إلا قليلا، ولا يعني نهاية كاملة، فالجراحة المفتوحة، حلَّت مكانها جراحة المناظير، مع الاستعداد في كل عملية لفتح بطن المريض، رجوعاً للطريقة القديمة الكلاسيكية.
كما أن استعراض البيوت لشرائها، يمكن عن طريق فتح الإنترنت على الموقع في مدينة مونتريال مثلا، ثم تقليب صفحات البيوت، لحين الاجتماع بالعرض المناسب، وكذلك هندسة البيوت.
ومؤسسة الحرب في الواقع ماتت منذ عام 1833 حينما ألغت بريطانيا الرق. فالرق والحرب طرفا طاولة إذا سقط جانب انهار الآخر تلقائيا.
وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون.