كيف نفهم الدعاء؟

يدعو المسلمون في كل مكان بتدمير إسرائيل؟ ولكن إسرائيل مازالت قائمة فأين الخطأ؟
وأرسلت لي أخت فاضلة السؤال التالي:
في القرآن الكريم آيات تحث على الدعاء بحيث ينتظر الله من عبده أن يدعيه لأن الله قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه, ولكن هناك في المقابل آيات مثل (لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم), حين أرى ما يحدث لفلسطين الآن وأرى تعليقات العرب في المواقع الإخبارية لا أجد منهم إلا الدعاء ففكرت أنهم يكتفون بالدعاء أمام قوة جبارة ومتطورة ولو أنهم عملوا على تطوير قدراتهم وعلمهم لربما كان لهم شأن آخر مع إسرائيل والدليل قوله تعالى (لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم), ولكن الآيات الأخرى تحث على الدعاء حتى يستجيب الله . فهل تستطيع أن تشرح لي كيف يمكن أن نفهم الدعاء والذي قد يرى البعض حلاوة الارتكان إليه بلا عمل في حين أن الله يريد منا تغيير أنفسنا؟
وجوابي كان التالي
الجهد الواعي يقابل عالم الشهادة، والـــــدعــاء  يقابـــل عالم الغيب، وإذا كان الكون يقوم على السنن، والعقل يتفاعل معها ليكون العلم، والتسخير هو السنة التي تحكم الوجود، فأين موضع الدعاء في تشكيل ثقافة الإنسان المسلم؟ والدعاء مخ العبادة؟...
للإجابة عن هذا السؤال الذي يشغل بال المؤمنين، وتندر عليه خروتشوف الذي أطاح به الرفاق في مكتب الحزب السياسي الذي حكم الاتحاد السوفيتي فيما مضى فقال إن الدعاء لم ينفع أحداً. وكذلك فقد سخر منه فرانسيس بيكون حين قيل له إن الله استجاب دعاء المؤمنين في لحظات غرق السفن! كان جوابه ولكن كم عدد الذين لم يستجب لهم؟
وأنا شخصيا كتبت كتابا كاملا في نقد العقل المسلم، ووقفت أمام هذا الموضوع لتجليته بين رغبة المؤمنين وسخرية الملحدين، ففتح الله لي روزنة في فهم آلية أو ما سميته ميكانيكية الدعاء؛ فالإنسان يسبح  في اللحظة الواحدة بين عالم الشهادة والغيب، والله وصف نفسه بأنه..(عالم الغيب والشهادة)..
والوجود بالنسبة لله سبحانة وتعالى هو عالم شهادة، أي لا يعزب عن ربك من مثقال ذرة في السموات والأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين. أما العالم بالنسبة لنا فهو عالمان: عالم شهادة وعالم غيب.
الغيب هو المستقبل الذي لا نعرفه (لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء)..
كذلك الغيب هو أحداث الماضي التي مرت ولا سبيل لنا إلى معرفتها (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين)...
كذلك فالغيب ثالثا هو حوادث الحاضر التي لا يعلمها الإنسان، ولو كانت أمام عينيه، وهو لا يدرك حقيقتها بالضبط، كما غاب عن الجن الذين كانوا في خدمة النبي سليمان عليه السلام أنه لم يكن إلا جثة:
(فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين).
إذن يمكن تعريف الغيب على نحو ثلاثي؛ أن الغيب هو ما غاب عنا فلم ندركه أياً كان في مستوى الزمان أوالمكان.
(وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض، ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين)
فهذه الإحاطة الشاملة لله سبحانه وتعالى مالك مفاتيح هذه الأسرار هو كل الغيب وأكثر منه، فهو الذي يعلم السر وأخفى من السر؟
ثم إن عالم الغيب والشهادة في حالة ديناميكية وليس استاتيكية، أي أن هناك تغيرا في المقادير والعلاقات.
فمثلا بإمكاننا اليوم أن نرى العظام تحت اللحم بواسطة أشعة رونتجن، كما يمكن لنا أن نحيط بمقادير إنتاج الهورمونات في الوقت الحاضر، أي أصبحت لنا عيون جديدة، وهكذا كبَّر عالم الشهادة أمام أعيننا، فما كان من عالم الغيب قديماً أصبح من عالم الشهادة حديثاً.
ولكن الوجود بنفس الوقت هو في حالة تمدد وكبر وزيادة (يزيد في الخلق ما يشاء) وهذا يعني بكلمة أدق أن معرفتنا تبقى محدودة، مهما تعمقت وامتدت. وتتمثل هذه المعرفة في أرقام محدودة أمام الكون اللامتناهي، ونسبة الرقم إلى اللامتناهي تساوي الصفر في عالم الرياضيات، وأفضل نظرية للمعرفة تلك التي تغطي المواجهة تماماً.
إن الوجود الذي نعيش فيه، فيه حركة تداخل الليل والنهار، والظلام والنور، المعرفة والجهل، الشهادة والغيب.
والتغطية العلمية هي التي تتناول كافة السطوح والمجالات والحقول المعرفية، فعالم الشهادة يواجه بالجهد الواعي،أما عالم الغيب فهو افتقار وانكسار إلى الله الخالق بارئ الإنسان من العدم، فيقابل بالدعاء، للصلة بمنبع الوجود.
وهكذا ففي اللحظة الواحدة يتأرجح الإنسان بين عالمي الشهادة والغيب، أو أولاً عالم الغيب ثم  الشهادة، ولتكون المواجهة صحيحة كان لابد من المزج الدائم بين العمل الواعي والدعاء.
وكذلك تدخل عملية النقد الذاتي ضمن هذا الإطار الأخلاقي، فكما أنه حاسة وعي لمطاردة الأخطاء، كذلك هي التفات إلى الداخل للتطهير، وبالتالي التوجه بالدعاء إلى الله بوضع الذنوب، والتثبيت على الطريق، والنمو في الإكتمال الإنساني، وتذكير الإنسان نفسه دوماً أن الخطأ أقرب إليه من حبل الوريد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي