الدجل الطبي (2ـ2)
يقول (ديكمان) الخبير في الكذب العلمي: إن الثقة أساسية في العلم مثل العملة، فنحن نعرف أن هناك قدرا ضئيلا من أوراق مزورة، ولكن إذا كثرت انهارت الثقة في كل العملة، وكذلك الثقة في العلم.
والمال والمصالح تؤدي دورا قذرا في اللعبة، كما حصل في شركات التدخين، أو تلك التي تنتج البيرة، حين تم إخراس العالم الذي قال عنها أنها ضارة.
وهنا فإن على العلم أن ينتظر قانون التاريخ، الذي قد يتأخر أحيانا حتى ينضج، فيزول الغثاء وما ينفع الناس يمكث في الأرض.
والتزوير في الأبحاث البيولوجية والإحصائية، أشد منها في العلوم الإنسانية خلاف المتوقع، حيث يسقط علم أرسطو ومنطقه الصوري في الفخ.
وفي العلم لا يوجد سحر بل وضوح ومعادلات صارمة، وهو المبدأ الذي رواه (ديورانت) في كتابه (قصة الفلسفة) عن (فرانسيس بيكون)، وأشار له (كلود برنارد) في كتابه (الطب التجريبي)، أن العلم لم يتقدم بالأسرار بل بـ (العلنية) ونقاش الآراء لتنمو الخبرات، فلا يوجد في العلم أسرار، بل صدق ومثابرة وإخلاص إلى حد التبتل.
وحسب (ديكمان) فلا نجاة من هذا المرض وتحرير العلم من الضحك عليه إلا بالمراقبة الصبورة الدءوبة المتكررة المعادة، وهي تلك التي أشار إليها ابن خلدون في مقدمته الشهيرة عن أمراض النقل في الأخبار، فقال إن الأخبار إذا نقلت، ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والاجتماع البشري، ولم يقارن الغائب بالحاضر والذاهب بالآتي فلا يأمن فيها المرء من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق.
وابن خلدون بهذا المنهج الصارم، يلمس الجدار الصاعق في نقل الأخبار عموما، وطرق التأكد منها حتى لا تغتال العقول، التي تمت دوما على شكل منظم بيد الكهنة، في الوقت الذي تم اغتيال الحريات على يد الطاغوت، ثم تعانق الطاغوت مع الجبت في زواج مشئوم أعاق التقدم الإنساني.
وفي هذا يقول (الوردي) إن العقل الإنساني آخر ما يبحث عنه هو العدل والحق والحقيقة، بل هو عضو للبقاء مثل درع السلحفاة وناب الأفعى وقرن الثور وساق النعامة.
وباختصار، فإن العلم له أخلاقية، فمن طلب العلم لغير الله أبى أن يأتي إليه.
ويروى عن الإمام (أبي يوسف) أن (أسد بن الفرات) التونسي جاء يتعلم على يديه في بغداد، فكان إذا نعس نضح وجهه بالماء ثم قال له: إن العلم لا يعطيك بعضه، إلا بعد أن تعطيه كلك، وأنت من هذا البعض على غرر..
ومن أشهر قصص الكذب والتزوير في العلم ما حصل لـ (روزاليند فرانكلين) التي طورت تقنية الكشف عن الكود الوراثي، ليسرق جهدها وهي على قيد الحياة المشرف على عملها (موريس ولكينز) ليقدمه على طبق من ذهب لكل من (جيمس واتسون) و(فرانسيس كريك) ليحصدا جائزة نوبل، وتموت هي بسرطان الثدي عن عمر 38 عاماً، ربما من الأشعة السينية التي طبقتها للكشف العظيم؟
كما أن (أديسون) المشهور سرق جهد العالم الصربي (تيسلا) الذي اكتشف التيار المتناوب، ولم تكن معروفة سوى الكهرباء الساكنة. والعالم يعرف أديسون ويشيد به، ولعل الندرة من سمع بتسلا المسكين.
وفي تاريخ التزوير والكذب العلمي جعبة مليئة بالقصص المثيرة، أشهرها ما فعله (تروفيم ليسنكو Trofim Lyssenko) حينما جنده ستالين لتدجين العلم لحساب الأيديولوجية، فتم عزل عالم الإحياء الشهير (أفيلوف) من أجل إرضاء غرور الرفاق في صحة العقيدة الشيوعية، التي تقول إن الإنسان تغيره ظروف الإنتاج المادي، فتبين أن الطبيعة الإنسانية ثابتة في المادة الوراثية، ما تشكل ضربة قاضية للنظرية الماركسية، وهو موضوع تكلم عنه باستفاضة (نديم البيطار) في كتابه (الأيديولوجية الانقلابية).
أو تلك التي اشتهرت في الأربعينيات من القرن العشرين عن كذبة (بيلت داون) عن كشف الحلقة المفقودة (Missing Link) في نظرية دارون، فتم تركيب الفك السفلي لقرد من نوع أورانج أوتان على جمجمة إنسان، ليزعم صاحبها أنه وصل إلى الحلقة التي تربط بين القرود والبشر، في حماس أعمى لتأكيد نظرية دارون، التي حمي الوطيس حولها آنذاك، واشتهرت في الصراع الدائر بين توماس هكسلي Thomas Huxley)) والمتكلم من الكنيسة الأنجليكانية (صامويل ويل بيفورس Samuel Wilberforce)، وبقيت الكذبة سارية المفعول 40 سنة قبل إعلان زيفها.
أو زعم الوصول إلى الطاقة الهيدروجينية بالطريقة الباردة، على يد مجموعة (فلايشمان)، ونحن نعلم أنه لا يمكن دمج ذرات الهيدروجين للوصول إلى الهليوم، إلا بتفجير ثلاث قنابل ذرية حسب معادلة (ستانسيلوف أولام) بمبدأ القبضة الفولاذية الرباعية (FFFF=Fission-Fission-Fission-Fusion) ترفع الحرارة إلى ملايين الدرجات فتنقل الاستعار النووي من باطن الشمس إلى ظهر الأرض.
ولعل دجلا من هذا النوع يحصل في هوليوود فيخرج فيلم (القديس The Saint) عن هذه (الفورمولا) ولكن لا تصلح للعلم الحقيقي بحال.
وهكذا فالدجل تشتد فوعته بقدر العمق العلمي وأعظم الدجالين كانوا كهنة فرعون ولم يتم تدجيل وتجهيل المواطنين بقدر مهنة الكتابة على يد كهنة معبد أوروك.. ومنه قال القرآن "فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله فويل لهم مما كسبت أيديهم"...