Author

الأيادي البيضاء في كفاح الداء

|

 تواجه الكوادر الصحية من ممرضين وأطباء ومساعديهم الفنيين، مخاطر كبيرة في التعامل مع المرضى وتقديم يد المساعدة لهم، خصوصا عند انتشار الأوبئة. ويبذل معظمهم جهودا مضنية وساعات عمل طويلة في بيئات خطرة لإنقاذ الأرواح، ومد يد المساعدة للمرضى، والعناية بهم، وتخفيف آلامهم، وعلاجهم، ومساعدتهم على التعافي. وفي أزمنة الأوبئة - بما في ذلك مرض كورونا المستجد - تقف الطواقم الطبية المختصة مكافحة في الخط الأول للتصدي للداء متحملة مسؤوليات المعالجة والعناية بالمرضى لها بشكل شبه كامل، ما يكشفها لمخاطر أكبر بكثير من عامة الناس وجيوش الإداريين القابعين خلف المكاتب.

يعود انكشاف الكوادر الطبية حاليا لمرض كورونا المستجد إلى أسباب متعددة، لعل من أبرزها، سرعة انتشار عدوى المرض، إذ ترتفع معدلات العدوى بسرعة، خصوصا بين أوساط هذه الكوادر، فقد يعدي مريض واحد؛ عشرة أو أكثر من الطواقم الطبية. كما ترتفع مخاطر إصابة الطواقم الطبية بالمرض أيضا لكثافة وشدة تعرضهم للفيروس، حيث هناك مؤشرات كثيرة كما أوردها عديد من المختصين - بما في ذلك مكتشف فيروس إيبولا - الذي أكد أن كثرة التعرض للفيروس ترفع بدرجة كبيرة إمكانية الإصابة بالعدوى. وتشير أحدث إحصائيات "كورونا" إلى تشكيل الطواقم الطبية نسبة كبيرة من المرضى قد تفوق 10 في المائة من إجمالي الإصابات، وقد تصل إلى الثلث أحيانا. وهذه نسبة غير مريحة للمعالجين، فتزيد مستويات توترهم ما يؤثر في مناعتهم.
من الأسباب - التي أعتقد أنها محزنة وغير مقبولة لارتفاع إصابة الطواقم الطبية بالعدوى - نقص وسائل الوقاية والإمدادات الطبية الضرورية في المنشآت الصحية عند انتشار الأوبئة، حيث ظهر تقريبا في معظم دول العالم فشل الأسواق وتقاعس بعض الحكومات في الاستعداد للأوبئة وبطئها في توفير وسائل الوقاية والأدوية والمعدات والتجهيزات لمواجهة الزيادة في أعداد المصابين. وهناك أنباء غير سارة عن شح في وسائل الوقاية حتى في الدول المتقدمة والغنية. ترتفع إمكانية إصابة الكوادر الطبية بالعدوى بالأوبئة أيضا نتيجة لساعات العمل الطويلة، والضغوط النفسية والإدارية، والإجهاد والإرهاق الذي تواجهه الأطقم الطبية؛ ما يخفض مستويات المناعة الطبيعة لديهم ويعرّضهم بدرجة أكبر للعدوى. وهذا ناتج عن قصور الدول وأنظمتها وسياساتها الصحية في الإعداد الكافي للأوبئة، وغياب آليات مناسبة لزيادة الأيادي العاملة المؤهلة الاحتياطية عند انتشار الأوبئة أو عند ارتفاع الحاجة إلى الخدمات الطبية كأزمنة الحروب والأزمات.
يزيد التشخيص الخاطئ للأمراض معدلات انتشار العدوى بين الطواقم الطبية. لذا ترتفع أهمية التركيز على فحوص الأوبئة عند أي تعامل مع المرضى حتى لو لم يكونوا مصابين أو تظهر عليهم أعراض العدوى. فقد يدخل مرضى بأمراض أخرى أو تشخص حالات حاملة للمرض بأمراض أخرى خطأ، وهو ما ينقل العدوى إلى أقسام المستشفيات غير المختصة بمعالجة الوباء معرضا الأطقم الطبية إلى العدوى. هناك مريض في كاليفورنيا شُخص بطريقة خطأ؛ بينما كان حاملا لفيروس كورونا المستجد؛ الأمر الذي تسبب في إصابة 50 شخصا من الأطقم الطبية.
يقود ازدياد معدلات إصابة الكوادر الطبية بمرض كورونا المستجد أو أي مرض معد إلى خسارة الأيادي العاملة لمواجهة الوباء ويرفع عدد المصابين؛ ما يصعب كثيرا من ظروف مجابهة المرض. فخسارة عشرة من أفراد الطواقم الطبية في العناية المركزة تقود إلى خسارة العناية بأعداد أكثر أو مشابهة من المرضى؛ ما يرفع عدد الإصابات ويضغط بشكل مضاعف على أنظمة الرعاية الصحية. لهذا لا بد للدول من التصرف بحزم وفرض العزل الصحي وباقي أنظمة الوقاية على أكبر نطاق ممكن، حفاظا على قدرات المنظومات الصحية.
في أزمنة الأوبئة تبذل الطواقم الطبية جهودا جبارة وتضحيات كبيرة في التصدي للأوبئة. وتتعرض هذه الأطقم إلى ضغوط هائلة وتنكشف على مخاطر جمة حيث تصاب نسب كبيرة منهم بالعدوى، ويفقد عديد منهم حياته، أو يعاني مضاعفات صحية بالغة، كما يخاطرون بدرجة أكبر بتعريض أسرهم للعدوى. وتعد الأطقم الطبية خط الدفاع الأول وقد يكون الوحيد أمام الأوبئة، وهم بجد مجاهدون يمدون أياديهم البيضاء لإنقاذ المرضى ووقف الداء دون سفك دماء. تستحق الأطقم الطبية وأفرادها كل الثناء والشكر والتقدير من جميع فئات المجتمع وقياداته ومؤسساته. كما يستحق المواجهون لانتشار الوباء منهم مزيدا من التغطية للمخاطر، التي يتعرضون لها سواء بتوفير مزيد من الحوافز المادية والأدبية والتقدير من الجميع. كما يتحتم على المجتمع بجميع شرائحه التقيد بتعليمات وأنظمة الوقاية كجزء من رد الجميل للأطقم الطبية ومساعدتها على حماية نفسها وخفض تعرضها والمنظومة الصحية للانهيار، عندها ستكون العواقب وخيمة وكارثية، فانهيارها يعني انتشار العدوى بين كل السكان.  
 حتى لو تناسى الناس مآثر الكوادر الطبية بعد تلاشي مخاطر انتشار الوباء، فلن تضيع جهودهم هباء عند الله، فالتصدي للمرض مع العلم بمخاطر الهلاك أو الضرر، عمل نبيل وهو صنف من صنوف الجهاد يثاب عليه الإنسان من الله أولا، كما أنه كإحياء الأنفس، ومن أحيا نفسا فكأنما أحيا الناس جميعا.

إنشرها