السياسية

دروس جدار برلين .. هل نعيش «سنة تحول» جديدة؟

دروس جدار برلين .. هل نعيش «سنة تحول» جديدة؟

مرت الذكرى الـ30 لسقوط جدار برلين، 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989، قبل أسبوع في أجواء خاصة واستثنائية، فاستعادة تفاصيل ما حدث قبل ثلاثة عقود من الآن، وانهيار إمبراطورية بأسرها دون إطلاق رصاصة واحدة، بل ودون إراقة قطرة دم واحدة، قد يفيد في فهم جانب من مجريات الأحداث على الصعيد الدولي.
لم يكن الأمر مجرد جدار تم تشييده عام 1961، كي يضع حدا لمسلسل النزوح بعد هجرة زهاء 2,7 مليون شخص من الشرق نحو الغرب، ويقسم ألمانيا إلى شطرين؛ ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية، بل كان حدا فاصلا بين فلسفتين متناقضتين، وعالمين متصارعين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بعدما تبنى كل من المعسكر الشرقي – أعضاء حلف وارسو - بقيادة الاتحاد السوفياتي، والمعسكر الغربي – أعضاء حلف الناتو - بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية سياسة حشد الأتباع وتقوية الجبهة الداخلية، باستقطاب مزيد من الدول التي تتبنى منظوره كمنهج في الحكم والإدارة والتدبير.
باختصار، كان شكل الجدار علامة فارقة بين تصورين للتاريخ والدينامية التي تحركه، وكذلك للإنسان بين الرؤية الليبرالية والتوجه الشيوعي. وشكل حدث سقوطه؛ الذي اعتبر ضمن أبرز أحداث النصف الثاني من القرن الـ20، الانطلاقة الفعلية لمسار بناء الوحدة الأوروبية، وبداية حملة تطهير دول أوروبا الوسطى والشرقية من الفكر الشيوعي والاشتراكي، بعد وصول قيم الليبرالية إليها محمولة على جناح الاقتصاد بفعل زحف العولمة.
انتهت حقبة الأيديولوجية الشيوعية بإعلان سقوط هذا الجدار، وانتهاء بتفكك الاتحاد السوفياتي. وهنا تنبغي الإشارة إلى أن 9 تشرين الثاني (نوفمبر) لم يكن البداية، لأن أول ثغرة في الستار الحديدي فتحت قبل خمسة أشهر خلت، وبالتحديد يوم 2 أيار (مايو)، عندما بدأ الجنود المجريون في تفكيك الأسلاك الشائكة على الحدود مع النمسا، وقد دفع ذلك مواطني ألمانيا الشرقية إلى تقديم طلبات لجوء في سفارة ألمانيا الغربية، في كل من المجر وتشيكوسلوفاكيا.
ألمح بعض الخبراء أواسط عقد الثمانينيات إلى أن دولة المعسكر الشرقي قد دالت، بفعل رواسب الأزمة الاقتصادية التي فرضت على الحكومات الشيوعية مراجعة سياستها متى رغبت في ضمان استمراريتها، ما أرغمها على اتباع أسلوب الانفتاح تدريجيا قصد تدارك الأخطاء، وتقويم الأعطاب التي لحقتها، جراء عقود من تطبيق النهج الاشتراكي في الحكم.
كان لواقعة "سقوط الشيوعية" تأثير بالغ في المعسكر الغربي، ممثلا في الولايات المتحدة الأمريكية بالدرجة الأولى، التي ازدادت ثقتها بذاتها بشكل كبير. فقد صارت تنظر إلى نفسها كحاملة للبشارة والخلاص للجميع. فلا بديل آخر كطوق للنجاة، بعيدا عن رسالتها القائمة على الليبرالية في الاقتصاد والديمقراطية في السياسية.. التي تطورت بمرور الوقت فنتجت عنها أيديولوجيا الليبرالية الجديدة "النيوليبرالية".
أضحت أيديولوجيا "الليبرالية الجديدة" بدورها على المحك اليوم، فقد صار الادعاء بأن الرأسمالية هي البديل الوحيد أمام الإنسانية مجرد هراء. ببساطة، لأن الحقيقة غير ذلك منذ الأزمة الاقتصادية التي هزت العالم عام 2008، فما أشبه اليوم بالبارحة، فالأوضاع على الصعيد العالمي اليوم أشبه ما تكون بتلك التي شهدها العالم إبان أزمة 1929؛ فالخوف والاضطراب والترقب والتوجس.. مقومات لا تخطئها عين المتابع اليقظ.
لا أحد في عالم اليوم مطمئن إلى ما نحن عليه، ولا إلى الطريق الذي نحن سائرون فيه، فالتيه وفقدان البوصلة سيدا الموقف بلا منازع، وكأن التاريخ يقرر أن يكرر نفسه، فما أكثر الجدران التي تتهاوى تباعا في عالم اليوم، بعضها أقوى وأصلب من ذاك الذي تمت الإطاحة به في برلين قبل 30 عاما.
من كان يتخيل يوما أن تتعطل الديمقراطية بهذا الشكل في عقر دارها، وترتد على قيمها المثلى، شعوب كانت مضربا للمثل في انغراس وتأصل قيم وأفكار الديمقراطية في نفوسها.
من كان يظن أن دول أوروبا الوسطى والشرقية على حد سواء، قد تنقلب انقلابا تسلطيا من جنس غير معهود: إنه منقلب "الديمقراطية السلطوية" أي غير الليبرالية. وتبقى المفارقة في كون كل من المجر وبولندا هما اللتان تتزعمان المسار التسلطي، رغم كونهما من أطلقتا في الثمانينيات بواكير المسار الصحوي من دوار الاستبداد الهادي الذي كان يعرف باسم "الديمقراطية الشعبية" أو "ديمقراطية الجماهير".
من كان يتوقع أن تهتز عواصم دول عدة، ومن جهات مختلفة من العالم مرددة الشعارات نفسها، وكأن المحتجين في كل بلد مجرد فرع لتنظيم نقابي واحد في العالم. فمن بيروت وبغداد وهونج كونج في آسيا، مرورا بالجزائر والخرطوم ونواكشوط في إفريقيا، وصولا إلى سوكري وكركاس في أمريكا اللاتينية، تكاد المطالب ذاتها تنتظم في سمفونية واحدة بلغات مختلفة؛ العيش والكرامة والحرية والعدالة...
لا يستطيع أي خبير رغم علو كعبه في مجال الاستشراف أن يتنبأ بما ستؤول إليه الأمور في المقبل من الأعوام؛ أو ربما فقط الأشهر، فأثر الفراشة بات مبدأ ملازما للسياسة الدولية. أكيد أننا نعيش على وقع إرهاصات شيء لا يزال قيد التشكل، لكنها حتما ليست نسخة لتجربة سابقة كما يحلو للبعض أن يروج. فالقول مثلا بنهاية أمريكا جراء صعود روسيا والصين سابق لأوانه، لعديد من الاعتبارات التي ليس هذا محل التفصيل فيها، كما أن القول بعودة العالم إلى الاشتراكية غير دقيق، لما في ذلك من خلط بين الفكر الاشتراكي النظري "ماركس، إنجلز، لينين، تروتسكي..." والتقعيدات العملية للنظام البيروقراطي الستاليني التي أدت إلى ما نعرفه من كوارث إنسانية.
يبدو أن مواطني القرن الـ21 عادوا مجددا لخوض غمار ما أسمته مارجريت تاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا عند انتهاء الحرب الباردة "الرحلة إلى الحرية".

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من السياسية