2024 .. "إعادة بناء الثقة" ولا شيء غير الثقة

2024 .. "إعادة بناء الثقة" ولا شيء غير الثقة

مطلع كل عام، تحاول مؤسسات وهيئات ومنابر إعلامية قراءة فنجان العام الجاري، باعتماد تقنية سبر الآراء أو استطلاع وجهات نظر خبراء مختصين أو غيرهما من الأساليب التي تمكن من رصد شمولي لمختلف المخاطر التي يتوقع أن تواجه دول العالم خلال أيام العام الـ365. تتعدد التقارير وتتنوع الدراسات، بحسب منظور الجهة المصدرة لها (اقتصادية، أمنية، استراتيجية...)، لكنها تكاد تجمع على قائمة من المخاطر تتربص في العالم خلال هذه العام، مع توقعات بتراخي تداعياتها إلى مقبل الأعوام.
يتأكد ذلك باستقراء أغلب ما نشر من تقارير، منذ بداية العام، حول أحوال العام الحالي، وكانت أحدثها "تقرير المخاطر العالمية 2024" الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس.
من جهتها نشرت مجلة "فورين بوليسي" تقريرين؛ أحدهما بعنوان "8 تهديدات متصاعدة لا يجب أن تتجاهلها في 2024"، والآخر من توقيع خبيرين بمركز ستمسون بعنوان "المخاطر العالمية 2024 أكبر من مجرد عودة ترمب". فيما عد تقرير وكالة "بلومبرغ" الإخبارية التوترات الجيوسياسية أكبر خطر على الأسواق والاقتصاد العالم. ورتبت مجلة تايم الأمريكية، استنادا إلى مقال لمحررها العام إيان بريمر، 10 مخاطر في عام 2024.
اقتصاديا، تراجعت المخاوف من حدوث ركود اقتصادي كبير خلال العام الجاري، فأحدث استطلاع رأي أجرته صحيفة وول ستريت جورنال، يفيد بتراجع نسبة احتمال الركود إلى 39 في المائة من إجمالي المستجوبين، إلا أن ذلك لا يخفض شيئا من حجم الفخاخ المتربصة بالاقتصاد العالمي؛ من تعطل في سلاسل التوريد (سلع ومواد حيوية ومواد غذائية ومواد طاقية...) وأزمة للدين العام، فضلا عن نقص في المهارات والعمالة، فضلا عن مخاوف من انفجار فقاعات عقارية وفقاعات تكنولوجية.
غياب اليقين الاقتصادي أضحى محل إجماع، نتيجة استمرار التضخم وتشديد السياسة النقدية، وتزايد احتمالية انتشار البطالة بين فئة متزايدة من سكان العالم، بسبب تداعيات التغير المناخي من جهة، وهيمنة الذكاء الاصطناعي من جهة أخرى. ما سيؤزم الأوضاع الاجتماعية والمعيشية بعدد من الدول، فالوصول إلى الضروريات الأساسية قد يصبح مقيدا، ليصبح النزوح الاقتصادي القسري طوق النجاة في أعين كثيرين.
جيوسياسيا، يتوقع أن يسير العالم نحو مزيد من التشرذم، فالبؤر الساخنة في المواقع الاستراتيجية في تزايد مستمر؛ من أوكرانيا إلى تايوان مرورا بفلسطين، حيث للقوى الكبرى مصالح خاصة، من شأن المساس بها زعزعة الاستقرار الإقليمي على نطاق واسع. فضلا عن احتمالية عودة بعض الصراعات المتوقفة مؤقتا إلى الاشتعال، كنتيجة تبعية للصراعات بين الكبار في العالم.
تتوقع الأكثرية أن تسهم الجغرافية السياسية؛ بشكل مباشر أو غير مباشر، بحصة الأسد في مخاطر هذا العام، بدءا من تداعيات الوفاق الأوراسي بين التنين الصيني والدب الروسي لإزالة النسر الأمريكي من قمرة قيادة العالم، وليس انتهاء بما يشكل صعود الشعبوية واليمين المتطرف في أغلب الانتخابات من قلق متزايد، جراء ما ينتظر أن يشهده معظم دول العالم من تقلبات بوصول متطرفين وشعبويين إلى مواقع الحكم والتقرير.
أمنيا، تعد التهديدات النووية جديد قائمة مخاطر هذا العام، فالاستقرار الاستراتيجي لفترة ما بعد الحرب البادرة بدأ يتلاشى مع تصاعد التوتر بين واشنطن وموسكو، ولا سيما بعد إعلان هذه الأخيرة تعليق عمل مشاركتها في اتفاق ستارت الذي يقيد أعداد الرؤوس النووية للطرفين (1550 رأسا نوويا). بذلك تضع هذا العام العالم على أعتاب دخول عصر نووي جديد، زاد من احتمالية تحققه اهتمام الصين بالمسألة، فأخيرا أعلنت بكين استعدادها لإجراء سلسلة من التجارب النووية.
بيئيا، لا جديد بشأن المعضلة المناخية سوى مزيد من التفاقم، ولا سيما أن النصف الأول من عام 2024 سيعرف بلوغ مناخ النينو ذروته، ما قد يؤدي إلى أحداث مناخية من شأنها أن تربك الأمن الغذائي بعديد من المناطق في العالم.
بصيغة أخرى، يشهد العالم استمرارا في ارتفاع درجات الحرارة عن الحد المطلوب، وفقا لأحدث تقرير للأمم المتحدة، حيث ارتفعت الحرارة بالفعل بمقدار 1.1، ما يجعلها قريبة من الحد المطلوب المحدد في 1.5 درجة.
يتعزز ذلك بمشكلة أخرى تتعلق باللامساواة، فالبون لا يزال شاسعا ما بين الدول المساهمة في استفحال المعضلة وبين الدول المتضررة من تداعيات. فوفق ذات التقرير الأممي دائما، يسهم أغنى 10 في المائة من سكان العالم في نحو 50 في المائة من الانبعاثات، في حين يسهم أفقر 50 في المائة بنسبة 12 في المائة فقط من إجمالي الانبعاثات.
رقميا، يتوقع أن ترتفع المخاوف بشأن التكنولوجيا، فحقل الذكاء الاصطناعي سيعرف مزيدا من الانقسام بين دول العالم، مع تزايد تأثيره بشكل كبير، ما يعيد إلى معايير السلامة في ظل قلة الأبحاث العلمية حول سلامة الذكاء الاصطناعي (السلامة والرقابة والمراقبة...). وذهب متشائمون في توقعاتهم إلى أن العام الجاري قد يكون بداية الموجة القادمة التي تجعل احتواء الذكاء الاصطناعي مستحيلا.
ازداد الأمر مع إجماع جل التقارير على التحذير من الآثار العكسية للتوسع في استخدام التكنولوجيا الحديثة، فمخاطر استعمال الذكاء الاصطناعي في التضليل ونشر الإشاعة في ارتفاع. خاصة بعدما أضحت المعلومة المضللة مصدرا متصاعدا للقلق في العالم، ما حدا بكثيرين من التعاطي الحذر معها، في عام ينتظر أن 1 /2 نحو صناديق الاقتراع لاختيار من يمثلهم وينوب عنهم، بشكل ديمقراطي. فمثلا حذر تقرير دافوس من أن "الاستخدام الواقع النطاق للمعلومات الخاطئة والمضللة وأدوات نشرها يمكن أن يقوض شرعية الحكومات المنتخبة حديثا".
يبدو أن القائمين على المنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس واعون بما يتهدد العالم هذا العالم، لذلك كان شعار الدورة هو: "إعادة بناء الثقة"، فلا شيء غير الثقة بمقدوره أن يقف في وجه المخاطر المحدقة في العالم عام 2024.

الأكثر قراءة