الإعلام والجيل الرقمي

الحقيقة المبهرة التي نقف أمامها مشدوهين هي أن الثورة الرقمية خلخلت وظائف الإعلام التقليدي، وغيرت مفهوم الإعلام وطرق صناعة وصياغة الأخبار، وطورت وسائل وأدوات النشر الإعلامي، بل غيرت مناهج وطرق تدريس الإعلام في الجامعات، وجعلت من كل إنسان إعلاميا ويحمل في جيبه أهم أدوات الإعلامي المعاصر وهو "الموبايل" الذي أصبح يقوم بوظائف المحرر والمصور والمتفاعل مع الأخبار طوال الـ24 ساعة.
أقصد لم يعد النص الإخباري التقليدي هو صناعة يقوم بها المتخصصون الإعلاميون، بل أصبح كل إنسان هو بطبيعته مساهما في صناعة النصوص الإعلامية ومتفاعلا معها وناشرا لها.
كان عدد الإعلاميين المتخصصين محدودا للغاية، وكانت المؤسسات الإعلامية تشكو من فقر في الكفاءات، لكن مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي أصبح كل إنسان هو إعلامي بالفطرة والمشاركة والتعاطي والتفاعل، بل أكثر من هذا كل إنسان أصبح ممتهنا لفن التصوير الإعلامي، وبذلك أصبحت المادة الإعلامية المصورة هي عمل تشاركي بين القراء والإعلاميين، ولم يعد عملا من طرف واحد.
ونكاد نجزم أن هناك تغييرا جذريا في طرق نشر المعلومات وقراءتها، وتغيير أعمق في الوسائل التي تمتهن صناعة ونشر الأخبار، فلم تعد الوسائل التقليدية "صحافة، إذاعة، تلفزيون" هي التي تنفرد بصناعة ونشر الأخبار، بل أصبحت الوسائل الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقاتها المتعددة تنشر الأخبار في كل مستويات المجتمعات، ثم حدث ما يشبه الاختصار في المسافات حتى أصبح الناس يقولون إن العالم أصبح قرية كونية تتداول الأخبار من بيت إلى بيت، ومن شقة إلى شقة، بل من غرفة إلى غرفة.
وفي ضوء ذلك أصبح الإعلام التقليدي في نظر أغلبية الناس لا يلبي تطلعات جيل الألفية، وهو الجيل الرقمي الذي أصبح يبحث عن المعلومة السريعة التي يتوافر فيها قدر كبير من الحرية التي تترك له مساحة للمشاركة والتفاعل وصناعة العمل وتصويره وإخراجه.
في إحصائية تقديرية نشرتها الصحافة الأمريكية تقول إن 90 في المائة من المجتمع الأمريكي يأخذون الأخبار اليومية من مواقع التواصل الاجتماعي، وهناك جزء لا يستهان به من المتصفحين يبحث عن الأخبار عبر الويب، بل أصبح لا يكتفي بالبحث عن الأخبار، بل يبحث عن المعجبين والمشاركين في صناعة الأخبار، فالجمهور العام في الواقع أصبح في مقدوره أن يقترح بنفسه أخباره الخاصة وتعليقاته، ويشارك في صناعتها وفي بناء شبكة القراء والمعجبين.
في ضوء هذه التحولات العميقة في الأداء الإعلامي، فإن الحديث في قضية انحسار الإعلام التقليدي لم تعد تشغل الإعلاميين، لأن الواقع يؤكد أن الإعلام الجديد تجاوز هذه المرحلة، ونجح في مداخلاته وفي اكتساب مواقع متقدمة في منظومة الإعلام الجديد.
إن المؤسسات الإعلامية أصبحت تستثمر أسماءها في بناء شبكات إلكترونية تضاهي وسائل التقنية الحديثة، وأصبح "اسم" المحطة التلفزيونية أو الصحيفة هو أداة تسويقها، بل إن اسمها هو مصدر نجاح المشروع الإعلامي في أثوابه الجديدة.
ولكن إذا طرحنا السؤال الكبير: ما مستقبل الإعلام في ظل ثورة المعلومات السريعة والدراماتيكية، فإن الإجابة عن هذا السؤال غائبة ولا يستطيع كائن من كان أن يقول ما مستقبل الإعلام، فالعالم في حالة تغير بطريقة دراماتيكية، ويخفي وسط تغيراته السريعة مستقبل الإعلام. كل يوم مستقبل الإعلام يتطور، والعصر الاصطناعي يقدم لنا مخترعاته الجديدة، فتنجلي صورة المستقبل، ثم لا نلبث أن نرى المستقبل وهو يرسل إلينا مستقبلا جديدا، وهكذا وهكذا...
وسيظل الحال على ذلك لسنوات حتى نرى مستقبل الإعلام في منظومة مستقبل الحياة وتقنياته الجديدة!
ولكن - بشكل عام - لا خوف على الإعلام ولا على الإعلاميين الذين أخذوا موقعا متقدما في الإعلام الإلكتروني الجديد.
ويجب أن نسلم بأن الإنسان لا يستطيع أن يعيش في هذه الحياة دون إعلام، ولذلك فإن التغيير سيكون في الوسائل التي تتطور باتجاه إعلام أسرع، وإعلام حر، وإعلام أشمل، وإعلام أجود، وإعلام أبهر.
وإذا كانت وظيفة الإعلام هي وظيفة لها وجود في كل التطورات، إلا أن المنافسة ستكون ضارية بين الناس على امتهان وظيفة الإعلام، لأن التطبيقات الحديثة أتاحت للناس جميعا إمكانية أن يمارسوا وظيفة نشر الأخبار بين ربوع أفراد المجتمع.
ولكن ما يجب الحث عليه هو المصداقية، فالمصداقية في الإعلام ستكون في امتحان صعب، ولقد بدأت بعض وسائل التواصل الاجتماعي مثل "تويتر" و"فيسبوك" وغيرهما كثير تراجع حساباتها، وتبحث عن كل ما من شأنه أن يدعم المصداقية ويستعيد الثقة في وسائلها التي تضررت من تسرب الأخبار الكاذبة أو المضللة إلى قنواتها، ولذلك فإن أكبر المواقع يضع حاليا استراتيجيات جديدة لضمان أعلى درجات المصداقية والابتعاد عن التشويش وتداول الأخبار المضللة.

المزيد من الرأي