من حق الوطن علينا التحدث عن أفضاله
دأب بعض من الكتاب على التركيز على الانتقاد، والحديث عن الأمور السلبية بدل الإيجابية، عند الكتابة عما يخص الشأن العام من الأمور المتعلقة بحياة المواطن، والخدمات التي تقدم له، متجاهلين الإشارة إلى الأمور الإيجابية التي لا يزال الوضع لدينا يتميز بها عن سائر الأوضاع المحيطة بالوطن، وإن كنا نحسن الظن غالبا ببعض الإخوة الكتاب حين نفترض أن ذلك التجاهل لا يصل إلى حد إنكار حق الوطن في ذكر فضائله، والتحدث بها في مناسباتها، وإنما قد يأخذهم الحماس في بعض المواقف إلى آفاق بعيدة من الانتقاد مدفوعين بالغيرة، والرغبة في بلوغ حد الكمال في مستوى الحياة العامة، والخدمات التي تقدم للمواطنين، حتى وإن كانوا يؤمنون بأن بلوغ الكمال هو أمر بعيد المنال.
بيد أن الفرق بين النقد والانتقاد هو كالفرق في النظرة إلى كأس نصفه ماء، فأحدنا يقول إنه ملآن إلى نصفه، والآخر يقول إنه فارغ إلى نصفه، وهكذا يمكن لأي من النظرتين، التفاؤلية والتشاؤمية، أن تغلف محيط الشيء المنظور إليه، أو الموضوع محل النظر، بغلاف الرأي نفسه، وطبيعة رؤيته للأمور.
هناك من الكتاب من تكون طبيعة نظرته تشاؤمية، ولا يرى الجانب الحسن في أي أمر، بل تتجه نظرته دائما إلى تلمس مواطن الازدراء، فالانتقاص من أي عمل، ومثل هذا يبحث عن مجال للانتقاد حتى وإن كان الكأس مملوءا بالماء، سيتجه انتقاده إلى نظافة الكأس أو الماء الذي فيه مثلا، ولماذا هو ساخن وليس باردا، أو العكس.
وهناك نموذج آخر من الكتاب لا يعرف قلمه غير طريق المدح والنفاق، حتى لو رأى الكأس فارغا، إذ سينصرف نظره، في هذه الحالة، إلى الحديث عن محاسن الكأس وهو فارغ، وشدة بريقه ولمعانه مثلما يحرص على تلميع شخصه، لضمان انفتاح الأبواب له، حتى قبل طرقها.
أما النوع الثالث من الكتاب فهو الذي ينظر إلى الأمور بميزان اسمه الإنصاف، ويتخذ من الموضوعية والتعقل منهجا يستمد منه طبيعة أسلوبه في الكتابة، فحين يكتب عن الكأس مثلا، ينظر إلى نصفه الملآن، ماذا يعني، وهل يكفي لإرواء الظمآن ؟! وهل بالإمكان زيادته؟ كما ينظر إلى نصفه الفارغ، ولماذا هو فارغ؟ وهل يتطلب الأمر زيادته؟ وهل ذلك ممكن، في ظل ما هو متوافر من إمكانات؟ تجده ينقد ولا ينتقد، يعين ويعاون، يتثبّت، ويحلل، ثم يقترح.
وهكذا نحن الكتاب، ثلاثة أثلاث، تكاد تكون متساوية في العدد، والقارئ وحده هو من يميز أي ثلث نحتاج.
في فترة سابقة من هذا الصيف، زرت بعض البلدان، وخلال زيارتي كنت أفتش وأحلل، وأقارن ما أرى بما أعلم من أوضاع بلدي، وقد خرجت بانطباعات أتمنى لو شاركني القارئ في الاطلاع عليها ليتذكر، من لم تتح له الفرصة للمقارنة، أن الوضع لدينا لا يزال بخير:
1- إن موجة الغلاء عامة، ولم يستثن منها بلد واحد، حتى البلدان التي كانت تتميز بالرخص، شب فيها الغلاء.
2- على الرغم مما يقال عن ارتفاع الأسعار لدينا، وعن وجود الجشع والاحتكار والاستغلال، لا تزال أسعار معظم المواد الغذائية في المملكة أرخص من غيرها.
3- هناك وفرة في الأصناف والمواد الغذائية، في المملكة غير موجودة في أي بلد آخر، ومن البلدان التي زرتها بلد عربي لا تكاد تجد فيه الحليب وقد كان هذا البلد معروفا بجودة صناعته وتوافرها في أسواقنا، وقد صار يجلب بعضها من المملكة.
4- الغريب لدينا، أن هناك صراعا على الاحتكار وتقاسم السوق من قبل بعض الأسماء المعروفة من المنتجات التي ألفها الناس، واستغل الوكلاء هذه الألفة.
5- إن ثقافة الاستهلاك لدينا لا تزال في أدنى درجاتها، وإلا فما الذي يربط الناس بنوع معين من الجبن، أو الرز، ولديهم بدائل كثيرة؟! وما الذي يجعل نوعا معينا من شراب التوت لا يدخل البيوت إلا في رمضان؟! وكأنه مرتبط بعبادات الشهر في حين تمتلئ الرفوف ببدائل أفضل من الناحية الصحية ألم أقل لكم إنها ثقافة الاستهلاك التي غفلت عنها الجهات المسؤولة عن التوعية الصحية والاستهلاكية؟!
6- الغريب، أيضا، في أسواق المملكة، أن هناك أصنافا لم تتغير أسعارها إطلاقا، رغم ارتفاعها عالميا، مثل السجائر، المشروبات الغازية، الوجبات السريعة، ولا يوجد بلد يجاري المملكة في أسعار هذه المواد، هذه الفئات الثلاث ثابتة، لاحظوا، رغم ارتفاع تكاليف مكوناتها، والسبب في ذلك أن كلا منها نجح في السيطرة والاحتكار، لكي يحافظ على حصته في السوق، حتى وإن ضحّى بجزء من الأرباح، وضحّى معها بصحة الناس، إذ تنفرد هذه المواد بخاصية واحدة، هي الإضرار بالصحة العامة!
7- في معظم البلدان، يمر الناس على المخزن (السوبر ماركت) ليلتقطوا ما يحتاجون إليه في أكياس باليد، وهنا عربات وأحيانا سيارات، تُملأ بمختلف الأصناف يوميا، ليتحول نصفها إلى الحاويات، خاصة في أعقاب المناسبات، وكأنه لم يتبق لنا من عادات الأجداد ما نتمسك به إلا الذبح (الذبائح) وتفريغ أكياس الرز في القدور، لتتحول فيما بعد إلى الحاويات، متناسين أن الأجداد لم يكن لديهم رزا ولا حاويات! والله من وراء القصد.