وداعا أبا الأيتام

[email protected]

سبحان من له البقاء، في كل يوم نشهد أرواحا تذهب وتجيء، وآجالا تمسي وتغتدي، ونحن في كل ذلك شهودٌ نسمع لاهين ونبصر ساهين، وليس في مقدورنا أن نسترد ماضيا ولا نرد آتيا، ولكنها سنة الله في خلقه، وسبحان من جعل لكل شيء كتابا موقوتا.
حكـم المنيـة في البريـة جـار # ما هذه الدنيـا بـدار قـرار
من الرجال مَعـالـمٌ ومجـاهِلٌ # ومن النجوم غوامضٌ ودراري
رحم الله تعالى معالي العم محمود طيبة، كان رجلا نادرا في الرجال، لا نزكيه على مولاه، لكن ألسنة الناس أقلام حق! فقد أجمع الناس على ورعه ونزاهته وأمانته وكفاءته وتواضعه. وقد غدت قصة محاولة رشوته من قبل إحدى شركات المقاولات الكهربائية الكورية قبل نحو 30 عاما أثناء فترة الطفرة الأولى، مضرب الأمثال في الأمانة والنزاهة، حتى تركت أثرا بالغا عند جميع موظفي الدولة، كما كان لها وقع عظيم بين الشركات. فسن الرجل بذلك سنة حسنة، نسأل الله أن يثيبه عليها خير الثواب.
كما شهد له الناس بتواضعه للصغير قبل الكبير، فقد كان حفيا بالناس، حتى يظن كل من يلقاه أنه مخصوص بهذه المعاملة، ثم يكتشف الجميع بمرور الأيام أن هذا ديدن الرجل وطبعه الأصيل مع كل الناس.
وكان رحمه الله، دائم التأمل كثير الصمت. فقد علمت من شقيقه الأكبر العم الأعز الدكتور مصطفى طيبة وكيل وزارة الصحة الأسبق أطال الله بقاءه – وكلاهما كانا من أصدقاء والدي ـ رحمه الله - أنه كان لا يعلم من أمور أخيه إلا بعد ظهورها للعلن، فهو مثلا لم يعلم عن الأوسمة التي حازها أخوه إلا بعد وفاته من خلال وسائل الإعلام، كما أن زوجته لم تعلم بتعيينه نائبا لمجلس الشورى إلا بعد أن علم بقية الخلق مع إعلان الخبر رسميا!
تأملت حياة هذا الرجل العظيم في أخلاقه وأمانته وكفاءته، فوجدت أن الدرس الكبير الذي يمكن أن نتعلمه منه، أن الإنسان بمقدوره أن يخط لنفسه طريقا في الحياة يجمع فيه خيري الدنيا والآخرة. وإنه طريق يسير على من يسره الله له، بشرط إخلاص النية وصدق العزم. فبينما يستعظم كثير من الناس فعل الخيرات ويظنون أن مشاغلهم ومسؤولياتهم لا تترك لهم طاقة ولا وقتا لفعلها، يعلمنا هذا الرجل أن هذا من أكبر الأوهام عند الناس، وأنها لا تعدو أن تكون من تلابيس إبليس عليهم. لقد اختار هذا الرجل أن يبذل بعضا من وقته وجهده وماله في عمل خيري هو من أبر الأعمال وأجلها وأعظمها، وهو رعاية الأيتام. فأنشأ عام 1416 هـ دارا في مكة المكرمة تخدم أيتام مكة المكرمة والمدينة المنورة والطائف. وكان ـ رحمه الله ـ حريصا على متابعة شؤونهم حتى وهو في مقر عمله في الرياض، وكان يوصى القائمين على الجمعية بإتقان العمل ويطلب منهم التأكد حتى من جودة اللحم والطعام الذي يقدم للأيتام. ونظرا لما عرف عنه، رحمه الله، من كفاءة عالية وإخلاص فيما يناط به من أعمال، فقد جعل من جمعية رعاية الأيتام مؤسسة راقية تعمل وفق منظومة من الإجراءات الإدارية المنضبطة التي قادت لتحقيق إنجازات محلية ودولية مميزة من خلال برامجها ومشاريعها، ومنها مشروع " الرضاعة بالقرابة" الذي وفر لليتيم شبكة من العلاقات الشرعية تهدف لدمجه وتكوين قرابة له عن طريق الرضاعة. وأضحى لهذا البرنامج سمعة دولية، جعلت جمعيات دولية مماثلة في بعض الدول العربية والإسلامية تطلب الاستفادة من خبرة جمعية مكة في مجالها. وكانت غايته من كل هذه الجهود تحقيق شخصية ناضجة لليتيم تمكنه من الاعتماد على ذاته في مستقبل حياته ليكون نافعا لنفسه ولمجتمعه.
لعل كثيرا من الناس يعرف أن محمود طيبة هو أبو الكهرباء في بلادنا كما صرح أخيرا أخونا المهندس على البراك، لكن قليلا منهم من يعرف أنه كان أبا مخلصا للأيتام .. فأنعم بها من أبوة .. وأنعم به من عمل، طبت أيها العظيم وطاب مسراك.
اللهم تولى عبدك محمودا بواسع رحمتك وجميل غفرانك، اللهم نشهدك، وأنت الأعلم، بطيب فعاله، ومحمود خصاله، اللهم أكرم مثواه وأنزله منازل الصديقين واجعل قبره روضة من رياض جنانك، وأسبغ عليه من إحسانك يا حي يا قيوم. وإنا لله وإنا إليه راجعون.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي