نتائج غير متوقعة لارتفاع أسعار النفط

أن تتباين آراء المراقبين حول العوامل المسببة والمحددة لمسار أسعار النفط خلال السنوات الخمس الماضية، حتى الاختصاصيين والخبراء منهم، هو أمر متوقع، حيث نادرا ما أجمع هؤلاء على تشخيص معين لسلوكيات أسواق الطاقة في مناسبات عديدة سابقة. والسبب ليس نقصا في القدرة العلمية أو ضعفا في الكفاءة، بل يكمن في كون المعارف العلمية ليست حقائق مطلقة أو مقفلة، بل نسبية ومتغيرة، كما أنها على درجات متباينة من اليقين. فالمعارف العلمية، كالطبيعة، هي في انبعاث مستمر ودائم. لكن المفارقة هي أنه كلما اتسعت دائرة المعرفة ازداد نطاق ما نجهله خارج هذه الدائرة، كما لاحظ العالم الشهير ألبرت أينشتاين.
وإن كان ارتفاع أسعار النفط على الوتيرة التي شهدتها السنوات الماضية أو المستويات التي وصلها أو قد يصلها في المستقبل، لم تكن متوقعة من معظم المراقبين والمهتمين بالسوق النفطية، فإن هذا ينسحب أيضا على ما ترتب عن هذا الارتفاع في الأسعار من نتائج، التي يفترض أن يكون توقعها أيسر نسبيا.
أول ما يلاحظ المراقب هو تماسك منظمة الدول المنتجة للنفط "أوبك"، المتمثل في التزام جميع أعضائها باستراتيجية المنظمة وقراراتها إلى حد كبير. فقد نجحت المنظمة في تحييد التباينات السياسية التي كانت تضعف من مصداقية قراراتها وثبات مواقفها في الماضي. كما أن التطور الملحوظ في قدراتها الفنية والتقنية والإدارية، أسهم في تحسين شفافية تلك القرارات وموضوعيتها، الأمر الذي أدى إلى رفع درجة الالتزام بهذه القرارات وعزز بالتالي من فعاليتها. وقد كان لمبادرات وجهود المملكة العربية السعودية خلال السنوات الماضية الهادفة إلى تعزيز التعاون والتفاهم بين أعضاء المنظمة، وإبعاد استراتيجيتها النفطية، قدر الإمكان، عن تأثير التباينات السياسية، دور أساسي فيما شهدته "أوبك" من تحسن في أدائها.
كما يلاحظ أيضا أن محاولات بعض الأوساط المعروفة بتحميل "أوبك" تلقائيا مسؤولية ارتفاع الأسعار لم يحالفها النجاح هذه المرة، حيث إن التطورات المختلفة التي شهدتها الفترة كانت واضحة التأثير في أسواق النفط. فقد كان واضحا، على سبيل المثال، لمستهلكي النفط حول العالم، أن "أوبك" لا يمكن أن تكون مسؤولة عن قضايا تكرير النفط في السوق الأمريكية، أو اختناقات شبكة المنتجات النفطية في أمريكا الشمالية من تشوّهات في أسواق النفط الفورية. كما أنه معروف أن صناديق الاستثمار السيادية لدول "أوبك" لا تنشط في عمليات المضاربة على الأوراق المالية المرتبطة بأسعار النفط. ناهيك عن براءة المنظمة من الأعاصير والعواصف التي أثرت في بعض مراكز إنتاج النفط حول العالم. حتى العامل الأمني المؤثر في الأسعار لم يعد مرتبطا بالأوضاع السياسية والأمنية لمنطقة الشرق الأوسط وحدها، بل تشعبت هذه الارتباطات لمناطق أخرى في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وحتى أوروبا.
أما تأثير ارتفاع الأسعار على العرض والطلب في النفط فهو بطبيعة الحال متوقعا، لكن ما لم يكن متوقعا هو مدى هذا التأثير، سواء على العرض أو الطلب. فالنمو في إنتاج النفط لم يأت متسقا مع النمو المرتفع في أسعاره، حتى بعد الأخذ في الاعتبار الفترة الزمنية المطلوب انقضاؤها قبل أن تظهر تأثيرات الأسعار في الإنتاج التي تقدر بنحو ثلاث سنوات. وقد يكون هذا من أبرز العوامل الداعمة لأسعار النفط على مستوياتها القياسية الحالية.
أما في جانب الاستهلاك، فإن البيئة الاقتصادية العالمية خلال السنوات القليلة الماضية تميزت باعتدال أسعار الفائدة على الدولار الأمريكي، الأمر الذي أسهم في دعم النمو الاقتصادي العالمي، الذي بدوره خفف من وطأة ارتفاع أسعار الطاقة على الاستهلاك. كما أن ارتفاع أسعار المعادن الأساسية والثمينة، إضافة إلى المنتجات الزراعية، خلال الفترة، ساعد على دعم اقتصاديات عدد من الدول النامية المصدرة لتلك المواد والمنتجات، ما أسهم في تعزيز قدرتها على تمويل وارداتها النفطية.
وقد كان لارتفاع أسعار النفط خلال السنوات الخمس الماضية تأثيرات متوقعة في أسواق الطاقة الأولية، حيث عززت مصادر الطاقة المنافسة للنفط حصصها على حساب النفط الخام. لكن ما لم يكن متوقعا من قبل العديد من المراقبين للسوق، هو التقدم الذي حققه الفحم الحجري الذي ارتفعت أسعاره خلال الفترة، ولكن بمعدل أقل من تلك للنفط والغاز الطبيعي، حيث اتسعت الفجوة بين سعر الفحم وأسعار مصادر الطاقة الأخرى. وقد جاء هذا خلاف ما كان يتوقعه البعض بأن يكون الغاز الطبيعي المستفيد الأول من ارتفاع أسعار النفط. ذلك أن أسعار الغاز شهدت ارتفاعا ملحوظا أيضا، نتيجة ارتباطها التقليدي بأسعار النفط من جهة، ومن جهة أخرى، محدودية إمداداته في بعض الأسواق، والقلق حول أمن تلك الإمدادات واستقرارها في السوق الأوروبية المهمة. وبالتالي فقد تمكن الغاز الطبيعي فقط من المحافظة على حصته في السوق العالمية دون أي زيادة تذكر. كذلك كان الأمر بالنسبة للطاقة النووية والطاقة الكهرومائية والطاقة المتجددة، التي حافظت مجتمعة على حصتها في السوق.
أما التطور الأبرز الذي واكب ارتفاع أسعار النفط وجاء متأثرا به إلى حد كبير، فهو النمو السريع في إنتاج الطاقة الأحيائية، وهي الطاقة المنتجة من المحاصيل الزراعية والنباتات والمخلفات العضوية. ومع أن حصة هذا المصدر من الطاقة لا تزال متواضعة، إلا أن ارتفاع أسعار وقود النقل التقليدي أسهم في تعزيز جدواه الاقتصادية. بينما أسهمت رغبة بعض الدول المستهلكة الرئيسة للطاقة في تنويع مصادرها من الطاقة بشكل عام، وفي قطاع النقل بشكل خاص، في اعتماد أهداف طموحة لتنمية هذا المصدر. لكن تحوير بعض الزراعة نحو إنتاج الطاقة لعب دورا كبيرا في رفع أسعار المنتجات الغذائية التي يشهدها العالم حاليا، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع الأصوات الداعية إلى عقلنة هذا التوجه لصالح توفير الغذاء. كما أن اتضاح عدم الفعالية البيئية لهذا المصدر، بخلاف ما يروج له من قبل بعض الأوساط، بات يلقي بظلاله على مستقبل هذا البديل الجزئي للطاقة التقليدية.
إن القاسم المشترك بين النتائج المتوقعة وغير المتوقعة لارتفاع أسعار النفط التي تناولناها أعلاه، هو مداها الزمني القصير إلى المتوسط. إلا أن التأثيرات في المدى الطويل قد تكون أبلغ وأشد تأثيرا، خاصة في حال بقاء الأسعار فوق مستويات التكلفة الحدية لبعض مصادر الطاقة البديلة بشكل عام ولوقود النقل بشكل خاص. حيث إن الارتفاع في أسعار النفط قد أطلق ديناميات ستؤدي إلى تغيرات جذرية وبنيوية، ليس في مصادر الطاقة فحسب، بل أيضا في أنماط ووسائل استخداماتها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي