مَن هم الذين ينصفهم التاريخ؟
مع اقتراب موعد مغادرة الرئيس الأمريكي جورج بوش البيت الأبيض بدأ بصورة شعورية أو لا شعورية بتبرير أفعاله, وتصرفاته التي سئمها العالم, وسئمها الشعب الأمريكي كذلك, وذلك حسب استطلاعات الرأي التي كشفت انخفاض شعبيته إلى 20 في المائة كأسوأ رئيس أمريكي منذ أول رئيس مرّ على الرئاسة وإلى الآن. والغريب في الأمر أن الرئيس بوش متخصص في التاريخ, ووجه الاستغراب مرده أن التاريخ كله عبر بما فيه من إيجابيات, وسلبيات, والناس جميعاً متعلمهم, وغير متعلمهم, يستفيدون من التاريخ وأحداثه, ويأخذون منها العبر حين يدرسون هذه الأحداث في المدارس, والجامعات أو حين يسمعونها من خلال القصص, أو يشاهدونها في الأفلام.
الرئيس بوش متخصص في التاريخ, ومن جامعة عريقة مشهورة هي جامعة ييل, والأولى أن يستفيد كمتخصص من أحداث التاريخ, وما ترتب عليها من تغيرات على المستوى المحلي الأمريكي, أو العالمي وأحداث التاريخ كفيلة بأن توقظ العقل, وتثير التساؤلات عند أي فرد, فكيف بمن يتخذ قرارات على مستوى عال من الخطورة. الرئيس بوش اتخذ قرارات حرب طال أمدها وتعاظم تدميرها في كل من العراق, وأفغانستان, ومناوشات في الصومال وأطراف أخرى من العالم, وكأني بالرئيس بوش وهو يتخذ هذه القرارات قد نسي التاريخ, أو وضعه جنباً, واستخف به, وكأن نفسه تحدثه بأن يكون عظيماً من عظماء أمريكا أو العالم حينما اتخذ مثل هذه القرارات. التاريخ وعبره مرهون بالنتائج المترتبة على الأحداث, والقرارات ولا يمكن ربطها بالظروف الآنية أو الحالة النفسية التي يعيشها الفرد، خاصة إذا كان ممن يصنعون الأحداث.وفي تجاهل بوش للتاريخ يصدق عليه المثل القائل باب النجار مخلوع.
الحروب الكارثية في كل من العراق، وأفغانستان دفع من أجلها الكثير من الخسائر البشرية والمادية من أبناء هذين البلدين, وتدمرت البنى التحتية, بل إن العراق رجع إلى الوراء كثيراً, ولم يعد ذلك البلد المستقر النامي الذي يوفر لمواطنيه الكثير من مقومات الحياة, ويفيض منه ما يصدره للخارج, وتحول بفعل الحرب التي اتخذ قرارها بوش إلى دولة متخلفة تفتقد كافة المقومات الحياتية, ويتمنى أهله الأمن, والاستقرار بدلاً من الرفاه, وبحبوحة العيش, ورغده التي وعدهم بها بوش قبيل الحرب. هل مبرر محاربة الإرهاب الذي يكرره الرئيس الأمريكي في داخل أمريكا, وفي زياراته لدول العالم, وخطبه يقنع الناس بصحة القرار, وهل ستغفر الأجيال القادمة لأمريكا تجاوزاتها, وبغيها على شعوب العالم؟ الرئيس الأمريكي سيغادر البيت الأبيض وقد سجل هذا الإرث الأسود في تاريخه لكن الأمر لن يقتصر على بوش إذ يمتد هذا السجل التاريخي إلى أمريكا كوطن, والتي سمحت, وهي دولة المؤسسات, والديمقراطية لمثل هذه التصرفات تحدث باسمها, وبفعل رجالها, وأموالها, وعدتها, وعتادها. الإدارة الأمريكية القادمة ستجد إرثاً ثقيلاً ليس من السهل التخلص منه أو من آثاره السلبية، وليس من السهل معالجته، والتفرغ لمعالجة القضايا التي يعانيها المجتمع الأمريكي في حياته اليومية سواء كانت اقتصادية, أو أخلاقية, أو اجتماعية.
الشعور بالخطأ، والاعتراف به، والاعتذار من شيم الرجال, وعظماء الناس، ومن يفعل ذلك هو من سيغفر له الناس، وينصفهم التاريخ، أما المكابرون, والمدافعون عن الأخطاء الجسيمة والمروجون لصحة قتل الأبرياء, وإهلاك الحرث، والنسل كما تفعل أمريكا في العراق وأفغانستان، وغيرهما من دول العالم فلن يغفر لهم الناس, وسيحاسبهم التاريخ بقسوة, وغلظة سواء كانوا أفراداً أو دولاً. في خطاب أمام مجموعة من المتخرجين في ولاية كولورادو, وفي أكاديمية سلاح الجو ذكر بوش استشهاداً تاريخياً حيث تساءل لو أن أحداً ذكر قبل خمسة عقود أن الشيوعية ستسقط، وأن الاتحاد السوفييتي سيتفكك فهل سيصدقه أحد؟ وهو بهذا المثل يبرر بصورة مباشرة، أو غير مباشرة قراراته بشأن الحرب على العراق، وأفغانستان, والتي كثيراً ما يسميها بالحرب على الإرهاب. توقفت عند هذا الاستشهاد من قبل الرئيس الأمريكي, وتساءلت بنفس المنطق الذي استخدمه، هل ستستمر أمريكا في قوتها, وغطرستها, وعدوانها في كل أنحاء العالم؟! وهل من الممكن أن تسقط الرأسمالية كما سقطت الشيوعية؟ وهل من الممكن أن تتفكك أمريكا، وتتحول إلى دول كما تفكك الاتحاد السوفياتي؟ إذا كان من المستبعد تصور سقوط, وتفكك الاتحاد السوفياتي قبل خمسة عقود، وهذا التصور خلاف ما حدث فيما بعد، فما الذي يمنع تصور سقوط أمريكا, وتفككها حتى وإن كانت المؤشرات في الوقت الراهن لا توحي بذلك؟ التاريخ الذي استخدمه بوش وقال إنه سينصفه، ويثبت صحة قراراته يقول لنا إن الظلم والبغي مهما طال عهده فإنه لا يدوم, ولا بد من يوم يسقط فيه ويتمرغ في الوحل، إن الفيروس الذي نخر في جسم الاتحاد السوفياتي, وأسقطه كفيل بأن يفعل الشيء نفسه في أمريكا.
في قراءة متأنية في أحداث التاريخ نجد أن أمماً غابرة مرت على وجه الأرض, وحكمت, وبطشت كعاد, وفرعون, وثمود, والفرس, والروم الذين كانوا يسومون العرب سوء العذاب سقطوا، واندثرت دولهم وذلك حسب نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث سقطت تلك الدول وحكمت من قبل المسلمين، وفي العصر الحديث القريب كان لألمانيا صولة, وجولة ثم ما لبثت أن سقطت، وأصبحت دولة محتلة.
شاعرنا العربي يقول:
ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع
لو تأملنا في هذا البيت لوجدنا أنه حكمة بليغة تجسد ما يفعله التاريخ بالأفراد, والأمم، فالسقوط هو النهاية الحتمية لكن ما سيدونه التاريخ هو المهم, فماذا سيكتب عن هذا القائد, أو ذاك, أو هذه الأمة, أو تلك؟!
إن قدرة الأفراد, والأمم على صناعة أحداث تدمر، وتهلك أمر سهل خاصة إذا توافرت أدوات التدمير, وانعدم الضمير, والشعور الإنساني، لكن في الوقت ذاته صناعة الأحداث التي تنقذ الناس, وتوجد الحياة, وتحدث النماء لا يقوم بها إلا من توافرت لديهم الإرادة لفعل ذلك، والإرادة لا تتوافر إلا بوجود مرجعية تغرس في أبنائها, وفي من بيده اتخاذ القرار مشاعر الإنسانية, ولذا لا يجود التاريخ إلا بالقليل من هؤلاء. لقد أكد الله - سبحانه وتعالى- كرامة الإنسان وحرمة دمه وفرض أقسى وأغلظ العقوبات على من يتجرأ على الأنفس الإنسانية البريئة حيث يقول عز وجل: "مَن قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً ومَن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً"، "فهل سيتوج التاريخ من قتل ملايين الناس وشردهم من ديارهم وهدم البيوت على رؤوس أهلها وترك كرامة الإنسان وراء ظهره؟!