قيمة دية القتل وضرورة التجديد
جاء ديننا الإسلامي الحنيف بالمحافظة على الضروريات الخمس، أعني: ضرورة المحافظة على الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، وبعضهم يضيف على هذه الضروريات: ضرورة المحافظة على الخلق، وعلى العرض... إلخ. وقد ألمح ربنا عز وجل إلى هذه الضرورات جميعاً في قوله: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً "حفظ الدين" وبالوالدين إحسانا "حفظ الخلق" ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم "حفظ النسل" ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن "حفظ العرض" ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق "حفظ النفس" ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون "حفظ العقل". ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن "حفظ المال"...)، فجاءت شريعتنا الغراء بالمحافظة على هذه الضرورات لينعم المسلم بحياة طيبة، يحيا فيها قلبه بالإيمان، ويسعد فيها بثواب الدنيا والآخرة، فتتحقق له كل ما فيه سعادة الروح، وراحة الجسد، وجمال الخُلُق، ونماء العقل، وسلامة النسل والعرض، وبقاء المال، وقد تجسدت المحافظة على هذه الضرورات في ديننا الإسلامي من خلال صور كثيرة جداً، علمها من علمها وجهلها من جهلها، وقد جاءت مادة هذا المقال المتواضع لترسم صورة من صور ضرورة المحافظة على النفس والمال، اللتين هما قوام العيش في هذه الحياة الدنيا، وذلك من خلال تقرير الشارع لدية القتل، سواء قتل العمد - عند التنازل عن القصاص - أو قتل شبه العمد، أو قتل الخطأ، فالشارع الحكيم حافظ على النفس المعصومة، وحماها بسياج كبير، يحجز المؤمن الذي يخاف الله تعالى عن افتحامه، أو الوقوع في شراكه، فإن رق إيمانه، واقتحم هذا السياج، وتجرأ على حدود الله تعالى، فإن الشارع قد شرع من العقوبات ما يردعه وأمثاله، ومن ذلك تشريع الدية؛ لئلا يذهب دم النفس هدراً، ولئلا تتجرأ النفوس الضعيفة على إزهاق النفوس المعصومة، أو تتساهل في حفظها. والدية المقررة لقتل المسلم عمداً، أو شبه عمد: هي 100 من الإبل، منها 40 خلفة في بطونها أولادها، و30 حقة، و30 جذعة، أما الدية المقررة لقتل المسلم خطأ: فهي 100 من الإبل، منها 20 حقة، و20 جذعة، و20 بنت مخاض، و20 ابن مخاض، و20 بنت لبون، وحيث قد جرى العمل على تقييم هذه الإبل بالنقود الورقية، فقد قيّمت دية العمد وشبه العمد بـ 100 وعشرة آلاف ريال، وقيّمت دية الخطأ المحض بـ 100 ألف ريال، ولكن كان هذا التقدير حين صدور التعميم الخاص بهذا التقييم، وذلك بتاريخ 7/9/1401هـ، واليوم وبعد 28 عاماً قد تغيرت قيم الإبل، ولهذا يجب المبادرة بتغيير القيمة بما يتفق مع قيمها الحالية، لئلا يبخس أولياء الدم، ولا سيما أن تقييم الإبل تم تغييره مرات عدة، ففي القرن الثاني عشر، وفي عهد الإمام عبد العزيز بن محمد آل سعود - رحمه الله - تحديداً تم تقييم الإبل بـ 800 ريال فرنسي، واستمر العمل على ذلك بقية مدة آل سعود في الدرعية، وكذلك بقية القرن الثالث عشر، وأوائل القرن الرابع عشر حتى استولى على الحجاز سنة 1343هـ، وضربت السكة الجديدة السعودية من الفضة، فقضى بعض القضاة - وإن كان زمناً يسيراً – بـ 800 ريال عربي، ثم بلغت ألف ريال عربي، ثم بعد سنوات ارتفع تقييمها إلى ثلاثة آلاف ريال عربي، ثم رفعت إلى أربعة آلاف ريال، ولما دخل عام 1374هـ لاحظ الملك سعود أن الفضة قد رخصت جداً، فاستفتى رئيس القضاة ومفتي الديار السعودية في حينه - الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله - فسأل من يوثق به من أهل الخبرة، فأخبروه أن قيمة إبل العمد وشبه العمد تساوي 18 ألف ريال عربي سعودي، وقيمة إبل الخطأ 16 ألف ريال عربي سعودي، فاعتمدت هذه القيمة، ثم تغيرت القيمة بعد ذلك عام 1390هـ، فقدرت دية العمد وشبهه بـ 27 ألف ريال، وقدرت دية الخطأ بـ 24 ألف ريال، ثم تغيرت القيمة بعد ذلك عام 1396هـ، فقدرت دية العمد وشبهه بـ 45 ألف ريال، وقدرت دية الخطأ بـ 40 ألف ريال، ثم تغيرت القيمة بعد ذلك عام 1401هـ، بما سبق بيانه، واستقر الأمر على هذا إلى اليوم. وفي الحقيقة أن هذه المراحل التي مرت بها تقديرات الدية تدل على أنه لابد من مراعاة تغير القيمة، وقد صرح بذلك الشيخ محمد بن إبراهيم – رحمه الله - في فتوى له سابقة، بتاريخ 5/1/1374هـ، حيث قال بعد ما ذكر بعضاً من هذه التغييرات المشار إليها: "ويستمر العمل على هذا ما لم تتغير قيمتها الحالية بزيادة كثيرة أو نقص كثير، فإن تغيرت وجب تجديد التقويم" بل قال رحمه الله: "كما أنه إن قدم من وجبت عليه الدية الإبل بأعيانها تعين على أولياء الدم قبولها"أ.هـ، واليوم مع نقص التقييم عن القيمة الحقيقية للإبل لا أظن أحداً ممن وجبت عليه الدية يقدم على هذا؛ لأنه سيغبن لا محالة. والحقيقة أنه مع نقص هذا التقييم وقع العكس، حيث ذكر لي أحد القضاة، أن أحد أولياء الدم كان ذكياً، وأظنه كان فقيهاً، فطلب 100 من الإبل بدلاً من النقود؛ ليربح ثلاثة أضعاف الدية! وقد قام أحد الإخوة الفضلاء بجولة استطلاعية على أسعار الإبل في ثلاث أسواق، لكي تعطي مؤشراً صحيحاً عن الأسعار، وذلك في سوق الإبل في الجنادرية في الرياض، وفي سوق الإبل في الخرج، وفي سوق الإبل في الحوطة، فوجد أن أسعار الإبل بشكل تقريبي على النحو الآتي:
بنت مخاض: 2500 ريال.
ابن مخاض: 2500 ريال.
بنت لبون: 2700 ريال.
حقة: 2500 ريال.
جذعة: 3000 ريال.
خلفة: 4000 ريال.
وبناء على هذا التقويم، تكون دية القتل العمد وشبهه على النحو التالي:
- 30 حقة: 2500 = 75000 ريال.
- 30 جذعة: 3000 = 900000 ريال.
- 40 خلفة: 4000 = 160000 ريال.
وبالتالي يكون مجموع الدية: 267500ريال.
وبناء على هذا التقويم أيضاً، تكون دية الخطأ على النحو التالي:
20 حقة: 2500 = 50000 ريال.
20 جذعة: 3000 = 60000 ريال.
20 بنت مخاض: 2500 = 50000 ريال.
20 ابن مخاض: 2500 = 50000ريال.
20 بنت لبون: 2700 = 54000 ريال.
وبالتالي يكون مجموع الدية: 264000 ريال.
وفي تقديري أن تقدير القيمة لا ينبغي أن يكون بقدر محدد، بل يجب أن تقوم المحاكم المختصة بالتنسيق مع بعض العارفين بأسعار الإبل، وذلك ليتم تقييمها فور حدوث أي قضية، وذلك حفظاً لحق أولياء الدم، ولأن هذا مما يتيسر الوقوف عليه، ولا سيما أن للمحاكم هيئات مختصة تقوم بدور مماثل، كهيئات النظر، ولجان تقدير الشجاج، وتقدير أسعار الإبل أسهل من هذا بمراحل، لاسيما وأنه يتعلق بضرورة من ضرورات الحياة، وهي حفظ النفس، والله تعالى أعلم.