«أبل» لا تستطيع مغادرة الصين بغض النظر عن الرسوم الجمركية
كتاب جديد يوثّق الصفقة الفاوستية التي عقدتها عملاقة التقنية مع عدو واشنطن الجيوسياسي الأكبر
- كتاب (Apple in China) يروي كيف أسهمت "أبل" في صعود الصين كقوة تقنية عالمية
- يصعب على "أبل" مغادرة الصين لصعوبة استنساخ منظومتها الصناعية المعقدة إلى أمريكا
كانت للرئيس الأمريكي دونالد ترمب زيارة شهيرة إلى مصنع في تكساس خلال ولايته الأولى، نسب خلالها لنفسه فضل إعادة شركة "أبل" عمليات إنتاجها إلى الأراضي الأمريكية. لكن في الحقيقة، كان ذلك المصنع عاملاً قبل سنوات من توليه منصبه. كان مصير المصنع "فشلا ذريعا"، إذ اضطرت الشركة إلى استقدام عمّال من الصين للمساعدة في معالجة مشكلات التصنيع التي تراكمت في قلب الولايات المتحدة.
تسلّط هذه الحكاية التي يوردها الصحافي السابق في "فايننشيال تايمز" باتريك مغّي في كتابه (Apple in China)، الضوء على شركة التقنية الأمريكية العملاقة التي انتهى بها الأمر تحت رحمة الخصم الجيوسياسي الأكبر لواشنطن.
استهل الكتاب بالتطرق إلى كيف كانت "أبل" ترسل مهندسيها من كاليفورنيا إلى الصين ليدربوا العمّال المحليين والتعاون معهم في تصنيع أبرز منتجاتها.
لكن اليوم انقبلت الآية، وبات كلّ ذلك من الماضي
.
"أبل" تسهم في صنع العملاق الصيني
يرى مغّي أن نقل "أبل" التقنيات إلى الصين عبر سلسلة قرارات صغيرة تراكمت على مرّ عقود، جعل منها أكبر شركة مستثمرة في خطة "صُنع في الصين 2025" الجريئة التي أطلقها الرئيس شي جين بينج بهدف وضع حدّ للاعتماد على التقنية الغربية. كتب مغّي: "إذ بأشهر شركة تقنية أمريكية تتطوّع للعب دور بروميثيوس، وتقدم الصينيين هبة النار".
لكن الفكرة المحورية في الكتاب هي أن "أبل" حوّلت الصين إلى عملاق التقنية الذي نعرفه اليوم، ما يطرح سؤالاً مهماً: لماذا لم تُقدم الشركة على استثمارات مشابهة على الأرض الأمريكية؟ في ظلّ ولاية ترمب الثانية، وتهديداته المتكررة بفرض رسوم جمركية ما لم تنقل الشركة عملياتها التصنيعية إلى الولايات المتحدة، بات هذا التساؤل ملحاً أكثر من أي وقت مضى.
لكن واقع الحال أن إلحاح ترمب لا يكفي لإعادة إنشاء المنظومة التي بنتها الحكومات المحلية في الصين بدعم من مورّدين تايوانيين مثل "هون هاي بريسيجن إندستري" (Hon Hai Precision Industry) من أجل استقطاب "أبل".
ويقدّم أحد الأكاديميين في مستهلّ الكتاب تفسيراً مبسّطاً لذلك، مفاده أن الصين كانت بلداً "تنخفض فيه الأجور والرعاية الاجتماعية وحقوق الإنسان" ما أتاح للمورّدين استغلال فئة واسعة من العمّال المهاجرين، فيما كانت السلطات المحلية قادرة على التدخل بسرعة لقمع أي احتجاجات عمالية أو تغطية إعلامية لها.
ولو كان هناك من أصوات وددتُ سماعها أكثر في الكتاب، لما كانت أصوات أولئك المهندسين من كوبرتينو في كاليفورنيا، بل أصوات العمّال الصينيين الذين أسهموا في تحويل "أبل" إلى شركة تتجاوز قيمتها السوقية اليوم 3 تريليونات دولار. وقد وصفت "أبل" علناً المزاعم التي أتى بها الكتاب بأنها غير حقيقة ومليئة بالمغالطات.
جيش من العمال الماهرين
لكن إذا كان من عبرة يمكن لترمب -أو للمستهلك الأمريكي عموماً- أن يستخلصها من هذا الواقع، فهي أن الوظائف في مجال تصنيع الإلكترونيات تأتي في كثير من الأحيان على حساب العمّال. ومن الصعب تصوّر أن هذا هو النوع من الوظائف هو ما يطمح إليه مؤيدو ترمب، ولا سيما في قطاع يرحب بالأتمتة.
ثم إن الصين لم تعد قاعدة تصنيع منخفضة الأجور كما في السابق. وقد أقرّ بذلك رئيس "أبل" التنفيذي تيم كوك، موضحاً أن الشركة لا تصنّع في الصين بسبب تكلفة العمالة، بل نظراً لما تزخر به من عمالة الماهرة.
يعتقد مغّي أن كلّ ذلك التطوير للمهارات في الصين يُوظَّف اليوم في خدمة الابتكار لدى عمالقة التقنية المحليين مثل "هواوي تكنولوجيز" (Huawei Technologies)، ويعدّه نتيجة مباشرة لاستثمارات "أبل". فبينما كانت الشركة الأمريكية تسعى وراء الأرباح السريعة، كان المورّدون الأذكياء في آسيا يلعبون لعبة طويلة الأمد.
سمعنا جميعنا بالشراكة الأسطورية بين مؤسس "أبل" ستيف جوبز والمصمّم جوني آيف التي جلبت جهاز "أيفون" الفريد من نوعه. إلا أن الشراكة التي جعلت منه منتجاً ثورياً بين أيدي أكثر من مليار إنسان، كانت، بحسب مغّي، بين تيم كوك و"العم تيري". إن "تيري جو"، مؤسس "هون هاي" (Hon Hai) المعروفة باسم "فوكسكون" (Foxconn)، هو عبقري التصنيع فائق الكفاءة الذي أسهم في انتشار جهاز "أيفون" حول العالم.
منظومة استغرقت عقوداً
يوصف تيري جو بأنه مهووس بخفض التكاليف، حتى لو اضطر إلى مزج صابون اليدين بالماء في المصانع. وينقل الكتاب عن أحد المصادر قوله إن جو راكم ثروة تُقدّر بالمليارات جمعها "من القروش". لكنه كان يدرك أن القيمة الحقيقية للعمل مع "أبل" لا تقتصر على الأرباح، بل تكمن في المعرفة الضمنية التي كان هو وفريقه يكتسبونها من مهندسي الشركة القادمين من كاليفورنيا للمساعدة في تأسيس المصانع وتشغيلها. وقد فهم جيداً أن هذا النوع من المعرفة لا يُقدّر بثمن، وحتى خسارة المال ثمن مقبول للفوز بعقود "أبل".
في المحصّلة، استغرق بناء منظومة تصنيع التقنية المتقدمة في الصين عقوداً طويلة، وهي منظومة لا تقوم على المصانع وحدها، بل على شبكة واسعة من مورّدين فرعيين في المناطق المحيطة، وجيش من المهندسين المهرة. ويكاد يستحيل أن يتمكّن ترمب من إعادة إنتاج هذا النموذج خلال فترة رئاسية واحدة. صحيح أن الولايات المتحدة يمكنها أن تبدأ بالاستثمار في التعليم المهني والهندسي، لكن على صنّاع القرار أن يدركوا أن اللحاق بالركب اليوم سيتطلّب إستراتيجية طويلة الأمد.
ونظراً للسنوات الطويلة التي استغرقها ترسيخ اعتماد "أبل" على الصين، فإن التهديد الوجودي الأكبر الذي يواجه الشركة اليوم ليس في رسوم ترمب الجمركية، بل في بكين نفسها. إن التخلي السريع عن الصين قد يستفز السلطات المحلية، بينما التباطؤ في ذلك سيجعل الانفصال عنها أعقد حين يغدو حتمياً.
وكما يطرح الكتاب بحجج مقنعة، يمكن لـ"أبل" أن تتحرّك تدريجياً نحو الهند وفيتنام، لكنها لن تكون قادرة على مغادرة الصين في المدى المنظور.
خاص بـ "بلومبرغ"