الرقابة القضائية على اتفاق التحكيم

ينشأ التحكيم من اتفاق بين الخصوم وهو لذلك وسيلة اختيارية لتسوية المنازعات، بيد أنه متى اتفق الخصوم على التحكيم فإنه يكون بحكم القانون الوسيلة الإجبارية بالنسبة إلى الخصوم لتسوية منازعاتهم. ولا يكتسب التحكيم تمام شرعيته ونفاذ أحكامه وقراراته إلا بحكم أو قرار من سلطة القضاء التي تمارسها محاكم الدولة، فقضاء الدولة يؤدي دورا مهما في العديد من الأمور المرتبطة بعملية التحكيم سواء قبل بدايتها أو خلال جريانها أو بعد إصدار الحكم فيها.
ونخصص هذا المقال للحديث عن دور القضاء قبل بدء التحكيم والمتمثل في الرقابة القضائية على الاتفاق الذي يبرمه الخصوم بشأن إجراء التحكيم والمعروف اصطلاحا باسم (مشارطة التحكيم) والذي سماه نظام التحكيم السعودي (وثيقة التحكيم). فالمادة السادسة من نظام التحكيم السعودي أناطت بالجهة القضائية المختصة أصلا بنظر النزاع, صلاحية اعتماد وثيقة التحكيم. فالمحكمون لا يستطيعون مباشرة عملهم إلا بعد صدور قرار من الجهة القضائية المختصة باعتماد وثيقة التحكيم، حيث يوجب النظام المذكور أن تكون هذه الوثيقة موقعة من الخصوم أو من وكلائهم المفوضين ومن المحكمين، وأن يحدد فيها موضوع النزاع تحديدا كافيا وأسماء المحكمين وأن ترفق بها صور من المستندات الخاصة بالنزاع.
والحكمة من الرقابة القضائية على وثيقة التحكيم هي التأكد من صحة هذه الوثيقة وخلوها من أي مخالفة لأحكام نظام التحكيم ولائحته التنفيذية وألا يكون موضوع التحكيم مخالفا أحكام الشرع أو قواعد النظام العام. وتوضيحا لذلك نسوق الأمثلة التالية:
1- طبقا للمادة الرابعة من نظام التحكيم, يجوز لأطراف الخصومة الاتفاق على عدد المحكمين بشرط أن يكون العدد وترا أيا كان ما يبلغه هذا العدد فإذا لم يكن هذا العدد وترا كان تشكيل هيئة التحكيم باطلا.
2- طبقا للمادة الثالثة من اللائحة التنفيذية لنظام التحكيم, يجب عند تعدد المحكمين أن يكون رئيسهم على دراية بالقواعد الشرعية والأنظمة التجارية والعرف والتقاليد السارية في المملكة، فإذا لم تتوافر هذه المؤهلات في الرئيس كان تشكيل هيئة التحكيم باطلا.
3- طبقا للمادة الثانية من نظام التحكيم والمادة الثانية من لائحته التنفيذية, لا يجوز التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح كالحدود واللعان بين الزوجين وكل ما هو متعلق بالنظام العام.
في ضوء ما تقدم نسوق مثلا نموذجيا للرقابة القضائية على وثيقة تحكيم، ويتجسد في القرار رقم 163/د/تج لعام 1411هـ الصادر عن إحدى الدوائر التجارية في ديوان المظالم، ومضمونه أن وثيقة تحكيم أبرمت بين شركة أجنبية (مقاول رئيسي) وشركة سعودية (مقاول من الباطن) للفصل فيما شجر بينهما من منازعات تتعلق بعقد المقاولة من الباطن المبرم بينهما، وقدم الطرفان الوثيقة إلى ديوان المظالم لاعتمادها بوصفه كهيئة قضاء تجاري, الجهة المختصة أصلا بنظر النزاع فصدر بشأنها القرار المذكور آنفا، والمتضمن اعتماد الوثيقة بعد أن أجرت الدائرة مصدرة القرار تعديلات عليها، أبرزها ما يلي:
1- ألغت من مطالبات الشركة السعودية المدعية مطلب التعويض عن تأخر الشركة الأجنبية المدعى عليها في تسليمها قيمة المستخلصات لكونها مطالبة ربوية. ومن نافلة القول إن الشريعة الإسلامية تحرم الربا، ولذلك فإن إلغاء المطالبة الربوية من وثيقة التحكيم كان أمرا حتميا يتفق وصحيح أحكام النظام.
2- استبعدت الدائرة في قرارها المذكور البند الوارد في وثيقة التحكيم الذي ينص على أن حكم المحكمين واجب التنفيذ فور صدوره لأن أحكام نظام التحكيم ولائحته التنفيذية توجب بألا يكتسب حكم المحكمين صفة النفاذ إلا بعد اعتماده من قبل الجهة القضائية المختصة أصلا بنظر النزاع.

ويثور هنا التساؤل حول كيفية تحديد الجهة القضائية المختصة باعتماد وثيقة التحكيم إذا كان موضوع النزاع مكونا من عدة مسائل ذات طبيعة قانونية متنوعة كأن تكون تجارية وعقارية في آن واحد، فهل هي ديوان المظالم بوصفه هيئة قضاء تجاري (أو المحكمة التجارية عند تطبيق نظام القضاء الجديد)؟.. أم المحكمة العامة باعتبارها الجهة المختصة بقضايا العقار؟.. أم الجهتان معا؟.. ليس في نظام التحكيم الحالي نص يعالج هذه المسألة. قد يقول قائل إن الحل في هذه الحالة يكون بتعدد التحكيم بحسب اختلاف موضوعات النزاع، وأحسب أن هذا الحل غير عملي لأنه من جهة لا يتفق مع مبدأ الاقتصاد في الخصومة، حيث يزيد من المصاريف والنفقات التي يتكبدها الخصوم، إذ جرى العرف بأن يتحمل كل طرف من طرفي الخصومة أتعاب المحكم المختار من قبله، ويتحمل الطرفان مناصفة أتعاب المحكم الثالث (رئيس التحكيم)، كما يتحملان مناصفة أتعاب سكرتارية التحكيم.
ومن جهة أخرى, فإن وحدة الخصوم والارتباط الوثيق بين المسائل المختلفة محل النزاع وجعل من الأنسب عرضها على هيئة تحكيم واحدة وليس على هيئات تحكيم متعددة. لذلك فإن الحل الأكثر ملاءمة قد يكون في جعل الجهة المختصة باعتماد وثيقة التحكيم هي الجهة القضائية التي يقع في دائرة اختصاصها معظم المسائل محل النزاع. ونخلص مما سبق إلى دعوة المشرع السعودي إلى أن يعالج هذه المسألة عندما يقرر تعديل نظام التحكيم الحالي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي