خواطر الشيخ وهيب العابرة

[email protected]

قبل أن يغادرنا للعلاج في الخارج منذ أربعة أشهر خلت، تلطف سعادة الشيخ وهيب بن زقر، شافاه الله وعافاه ورده إلينا سليما معافى، بإهدائي نسخة من كتابه "خواطر اقتصادية عابرة" الذي جمع فيه بعضا من مقالاته الاقتصادية التي نشرها عبر السنين في عدد من صحفنا المحلية، وضمنها خلاصة تجاربه الطويلة في عالم المال والأعمال، وعصارة أفكاره وتأملاته حول مختلف شؤوننا الاقتصادية. وقد صـّدر إهداءه لي بجملة أحسب أنها لخصت بذكاء وبلاغة أفكاره التي بسطها في سفره الذي تجاوزت صفحاته الـ 500 صفحة، فكتب بخط يده شافاه الله : "الأمل في الله كبير، إن الخواطر العابرة، يتولد عنها ثوابت تنموية نافعة".
يعد الشيخ وهيب بن زقر واحدا من رجال الأعمال المميزين في بلادنا. فهو من تلك الثلة التي يمتد نشاطها واهتماماتها لما هو أبعد من أعمالهم الخاصة، فيشاركون مشاركة فعالة في التصدي للهم الاقتصادي والتنموي العام. وقد كان لخلفيته التعليمية المرموقة، فضلا عن طبيعة شخصيته والمبادئ التي يؤمن بها دور مؤثر في تشكيل اهتماماته. فهو من أوائل رجال الأعمال الذين نالوا قسطا وافرا من التعليم الرفيع. فبعد أن أنهى مراحل تعليمه الأولى في مكة المكرمة وجدة، انتقل إلى القاهرة في عام 1944م ليواصل تعليمه في مدارسها الراقية، ثم ذهب إلى بريطانيا لدراسة الاقتصاد، حيث تخرج في كلية الملك في جامعة درهام في عام 1957م. وعمل بعد عودته من الدراسة مع والده وعمه في التجارة، ثم اتجه إلى تأسيس عدد من المشروعات المتنوعة في مجالات التجارة والصناعة والخدمات.
وخلال مسيرة حياته الحافلة بالعطاء والإنجازات، أسهم بجهوده في عدد من الأعمال الحكومية والأهلية. فقد كان من أوائل من تقلد مسؤولية أمانة بلدية جدة وله فيها بصمات مشهودة بالقدر الذي كانت تسمح به الظروف الإدارية والإمكانات المالية آنذاك. كما شارك في عضوية مجالس الإدارة في عدد من مؤسساتنا الاقتصادية الكبرى، فقد كان، شفاه الله وعافاه، وفي أوقات متفاوتة عضوا في المجلس الأعلى لشركة الزيت العربية "أرامكو السعودية"، وعضوا في مجلس إدارة المؤسسة العامة للخطوط الجوية العربية السعودية، وعضوا في مجلس إدارة المؤسسة العامة للصناعات الحربية، وعضوا في الهيئة التأسيسية لجامعة الملك عبد العزيز في جدة. وحاليا يشارك في عضوية مجالس إدارة بعض البنوك وشركات التأمين كبنك الرياض، وبنك الاستثمار السعودي، والشركة العالمية للتأمين، وكان قبلها رئيسا لمجلس إدارة بنك القاهرة السعودي. هذا فضلا عن رئاسته لمجلس أعمال عائلته: "بيت بن زقر" التجاري.
كان الشيخ وهيب – متعه الله بالصحة - يكتب معنا في هذه الجريدة كل يوم سبت، وكنت أبذل جهدا في قراءة مقالاته لطولها وصعوبة صياغتها الإنشائية، لكن مثلي لا يسعه أن يُـفـّوِت قراءة أفكار ذات دلالات عميقة، وتلميحات ذكية فريدة لمثل هذا الرجل الذي صقلته الحياة خبرة وتجربة.
اشتهرت مقالاته بعناوينها المختارة من الأمثال الشعبية الحجازية، وكانت زاخرة بالأفكار العميقة المدعومة بتجربة طويلة في عالم التجارة والصناعة والمصارف. كانت مقالاته تعكس بوضوح حبه الكبير لوطنه، وإخلاصه في إسداء النصائح الصادقة لإصلاح أوضاعنا الاقتصادية، والتعامل بشفافية تامة مع المعوقات الإدارية للحد من آثارها السلبية المثبطة لمسيرة التنمية في بلادنا. فقد كان يؤمن بأهمية التصدي لمشكلة البيروقراطية وضرورة إحداث طفرة إدارية نوعية لإزالة العقبات التي أخرت جهودنا لسنوات وعصفت ببعض خططنا ومشاريعنا الاقتصادية، تلك الخطط التي علقنا عليها خلال العقود الأربعة الماضية آمالا عريضة في إحداث نقلة غير تقليدية في مسيرة كفاحنا نحو التنمية الشاملة.
وللشيخ وهيب رؤى إدارية حصيفة، فهو يؤمن بأن الكوادر التي عرقلت مسيرة التنمية لسنوات لا يمكن لها أن تتولى إدارتها الآن، وأننا إذا لم نبذل جهودا حثيثة لإزالة المعوقات الإدارية، فإن محاولات إحداث نقلة نوعية في مسيرة التنمية في بلادنا ستتعطل، كما ستفشل جهودنا في استقطاب الأموال الأجنبية واستعادة الأموال الوطنية المهاجرة، الأمر الذي يفوت على بلادنا فرصا ثمينة لفك الاختناقات وسد الثغرات بين الطلب الكلي المتعاظم على مختلف الخدمات الاقتصادية والاجتماعية وعرضها المحدود. وكان شافاه الله يشاركني دائما الاعتقاد بأن اقتصادنا الزاخر بالموارد والفرص الهائلة، مؤهل دون مبالغات وبشكل يثير الدهشة، لكي يتبوأ مكانة رفيعة بين اقتصادات العالم، بشرط أن نتفوق على أنفسنا ونطور طريقة إدارة اقتصادنا والتصرف بمواردنا.
أما على المستوى الإنساني، فالشيخ وهيب يتصف بدماثة خلق من طراز رفيع، وبشخصية هادئة وديعة، وصاحب روح مرحة، وهو رجل مضياف شديد الاعتناء بضيوفه كريم السجايا. دعاني ذات مرة لبيته الأثير لديه في منطقة أبحر في جدة، وكان ضمن ضيوفه السيد أحمد عبد الوهاب رئيس المراسم الملكية السابق، الذي أخذ يحدثنا عن ذكرياته الممتعة، وصادف أن جاءني اتصال هاتفي من زوجتي فأجبتها بصوت خفيض، فتوقف السيد أحمد عن الحديث، والتفت إلي مداعبا ومتسائلا عن المتصل، فقلت له مداعبا: يا سيد أحمد لا تقلق فإن حديثك هو عن ذكريات مضت عليها عقود، والغالب أنها أصبحت – وفقا للقانون البريطاني للمعلومات - متاحة للجميع.
أدعو الله العلي القدير أن يشمل بكريم لطفه وعنايته أستاذنا وهيب بن زقر، ويكتب له الشفاء العاجل، ويمده بموفور الصحة والعافية، ويعيده لنا ولبلده ولذويه سليما معافى، إنه ولي ذلك والقادر سبحانه وتعالى عليه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي