استنزاف البنوك المركزية
بدأ عدد من البنوك المركزية في العالم أخيرا تطبيق الفائدة السلبية وذلك في سبيل تحفيز الاقتصاد والخروج من شرك التضخم السلبي "تراجع الأسعار" الذي يعكس تراجعا في النشاط الاقتصادي. هي حالة جديدة يواجهها عدد كبير من البنوك المركزية في العالم ومنها البنك المركزي الياباني ـــ الذي يقوم في الوقت نفسه بعملية تيسير كمي كبيرة جدا ــــ حيث فرض الفائدة السلبية ليس فقط على القروض القصيرة الأجل، ولكن أيضا على القروض طويلة الأجل. البنك المركزي الأوروبي أيضا يواجه تراجع معدلات التضخم بتبني سياسة فائدة سلبية على القروض، وسياسة تيسير كمي مربوطة بالاستثمار في الملكية بدلا من الاستثمار في الديون، لتحفيز المؤسسات المالية على تمويل الاقتصاد الحقيقي بدلا من تمويل الديون التي تذهب للأصول المالية دون تأثير ملحوظ في الاقتصاد الحقيقي. كذلك، فإن عددا من الدول الأخرى كالسويد والدنمارك وسويسرا بدأت تطبيق الفائدة السلبية على القروض لمواجهة مخاطر تراجع معدلات التضخم.
وجاءت سياسة تطبيق معدل الفائدة السلبية بعد عدد من السنوات التي أصبح فيها اقتصادات عدد من الدول المتقدمة، بما فيها الولايات المتحدة وبريطانيا إضافة إلى اليابان ودول منطقة اليورو، مقيدة بالحد الصفري للفائدةZero Lower Bound أو مصيدة السيولة ـــ كما سماها الاقتصادي البريطاني الشهير جون ماينارد كينز ـــ التي لا يؤدي فيها ضخ السيولة في النظام المالي إلى زيادة سعر الفائدة وبالتالي عدم فعالية السياسة النقدية في تحفيز الاقتصاد. والسبب في ذلك، هو أن الأفراد والمستثمرين يقومون بمراكمة النقد لمواجهة مخاطر التضخم السلبي وضعف الطلب العام، وهو ما كان سببا فعليا في الوصول إلى هذه النتيجة حاليا. حيث عانى الاقتصاد العالمي منذ بداية الأزمة العالمية في 2008 تراجعا في الطلب العالمي بسبب الإجراءات الإصلاحية التي تبناها عدد من الدول، خصوصا في منطقة اليورو، وبالتالي لم تفلح السياسات النقدية ــــ بما فيها غير التقليدية ـــ التي اتبعتها البنوك المركزية الرئيسة في العالم في تحفيز الاقتصاد.
والوصول إلى مرحلة تطبيق الفائدة السلبية يعني أن السياسة النقدية استنفدت تقريبا الأسلحة المتاحة لها، وهو ما يتطلب تبني سياسات أخرى ـــ كالسياسة المالية ـــ لحفز الطلب والاقتصاد. وقد يكون هذا يعني أيضا أن البنوك المركزية على أبواب الدخول إلى سياسات غير تقليدية جديدة كانت محرمة في السابق عليها وقد تؤدي إلى المخاطرة باستقلالية هذه البنوك. فيمكن للبنوك المركزية الدخول في شراء الأوراق التجارية التي تصدرها المصارف والشركات التجارية، وقد يتعدى ذلك إلى الدخول في شراء السندات ذات العائد العالي التي تعكس مخاطر عالية junk bonds، وفي حالات متطرفة جدا قد تلجأ البنوك إلى الشراء المباشر لبعض الأصول العقارية من خلال إصدار العملة في سبيل تحفيز الاقتصاد ومحاربة تراجع التضخم. في حالات متطرفة أخرى بدأ الحديث عن دخول البنوك المركزية إلى مجالات كانت في السابق من المحرمات (أو من الكبائر) كتمويل الحكومات، حيث تقوم البنوك المركزية بتمويل عملية التحفيز المالي للحكومات لحفز الطلب العام من خلال شراء السندات التي تصدرها الحكومات لهذا الغرض. وهذه الحالة هي من أكثر الحالات تطرفا، حيث إنها تؤدي إلى التأثير الكبير في استقلالية البنوك المركزية ومن ثم تراجع مصداقيتها التي تعد حجر الأساس في السياسة النقدية.
وعودة إلى موضوع تطبيق الفائدة السلبية ومدى إمكانية تحقيقه لهدف رفع معدلات التضخم وتحفيز الاقتصاد، فإن هناك عددا من المخاطر التي تواجهها البنوك المركزية في سبيل تحقيق ذلك. أولها إمكانية أن تؤدي هذه السياسة إلى التأثير في ربحية المصارف، وبالتالي الوصول إلى نتيجة معاكسة، حيث إن المصارف من أهم القنوات التي تنقل تأثير السياسة النقدية وتحقق فعاليتها في الوصول إلى أهدافها. والجانب السلبي المحتمل لهذه السياسة أن الفائدة السلبية ـــ إذا كانت ستستمر لفترة طويلة ـــ قد ترسخ في مفهوم الكثير من الأفراد والمستثمرين - خصوصا المصارف - أفضلية النقد كأحد الأصول الاستثمارية خصوصا في ظل تراجع العوائد على الأصول الأخرى وتراجع الأداء الاقتصادي العام، وبالتالي فشل هذه السياسة في تغيير التوقعات حيال معدلات التضخم. بمعنى آخر، فإن تغيير توقعات الأفراد حيال معدلات التضخم، وبالتالي تحديد توجهاتهم حيال تفضيل النقد في مقابل الأصول الأخرى سيعتمد على رؤيتهم وتوقعاتهم حيال النشاط الاقتصادي وليس فقط حيال تطبيق الفائدة السلبية.
والخلاصة أن الاقتصاد العالمي يشهد حاليا مسرحا جديدا تحاول فيه البنوك المركزية لعب الدور الرئيس لتحفيز الاقتصاد والخروج به من حالة الركود التي عاناها منذ أكثر من سبع سنوات. والمؤكد أن الدول ـــ خصوصا الاقتصادات الكبرى ـــ حمَّلت البنوك المركزية والسياسات النقدية أكثر من طاقتها، في حين أهملت ـــ لأسباب سياسية محلية في الدرجة الأولى ـــ معالجة الجذور الهيكلية للمشكلة. ففي منطقة اليورو هناك مشكلة الديون المتعثرة التي تفرض على المصارف بناء الاحتياطيات لمواجهتها، وفي اليابان هناك مشكلات ديموغرافية واجتماعية تعطل النمو الاقتصادي ولا تواجهها الحكومة بالشكل المطلوب لحساسيتها، وفي الولايات المتحدة هناك غرامات كبيرة تفرض على المصارف في العالم بدواع مختلفة بما فيها تمويل الإرهاب وتؤدي إلى إحجام المصارف في العالم عن تحمل المخاطر والانسحاب من التمويل في مناطق كثيرة من العالم. لذلك، فالاعتماد المفرط على السياسة النقدية دون معالجة أوجه الاختلالات الهيكلية الأخرى بما فيها تحفيز الطلب العام لن يؤدي إلى تحفيز النمو، وفي الوقت نفسه قد يستهلك طاقة البنوك المركزية ويقلل من فعاليتها بشكل كبير.