أولويات الإصلاح الاقتصادي خلال المرحلة الراهنة «2»

تطرقت في مقال الأسبوع الماضي إلى أولويات الإصلاح في المرحلة الراهنة، وأنها يجب أن ترتكز على مبدأ أساسي وهو أن تكون داعمة للنمو على المديين القصير والمتوسط، حيث لا تؤدي تلك الإصلاحات إلى التأثير في إمكانات الإنتاج للاقتصاد نتيجة لتعطل كثير من المشاريع الإنتاجية أو تحولها للخارج نتيجة لعدم جدواها الاقتصادية في ظل هذه الإصلاحات. لذلك، فإن اختيار برامج الإصلاح سواء تلك المتعلقة بتعزيز الاستقرار الاقتصادي (المالية والنقدية) أو تلك المتعلقة بالإصلاحات الهيكلية (إصلاحات سوق العمل، التخصيص، كفاءة الإنفاق، كفاءة الحكومة، المنافسة) يجب أن يخضع لاختبار مقدرة هذه الإصلاحات على المحافظة على النمو الاقتصادي خلال المرحلة الحالية، وتعزيز النمو على المديين المتوسط والطويل. لذلك، فإن السياسة المضادة للدورات الاقتصادية التي تتبعها المملكة في الإنفاق العام يجب أن تشمل أيضا سياسات الإصلاح الهيكلي التي تتبناها جهات مختلفة بما فيها وزارة العمل، ووزارة الاقتصاد التخطيط، حيث يكون هناك اتساق وتكامل بين سياسات الاستقرار والتوازن المالية والنقدية والسياسات الهيكلية التي تستهدف الاستقرار والتوازن وكفاءة الاقتصاد على المديين المتوسط والطويل.
والتضارب بين هدف هذه الإصلاحات وبين النمو الاقتصادي هو أمر يواجهه كثير من الدول عند تبنيها برامج الإصلاح الاقتصادي، وتخضع عملية التوازن فيما بين هذه الإصلاحات لتأثير العامل السياسي والجدل بين التيارات السياسية المختلفة سواء المحافظة أو الأكثر مرونة والتي ترى دورا أكبر للدولة في النشاط الاقتصادي. وأكثر التجارب وضوحا في تضارب الرؤى حول أولويات الإصلاح الاقتصادي هي ما برز خلال أزمة الديون في منطقة اليورو والتضارب بين النظرة الألمانية التي تركز على أولوية إصلاح المالية العامة حتى لو كان ذلك على حساب النمو الاقتصادي وتعزيز شروط النمو الاقتصادي من خلال الإصلاحات الهيكلية المكثفة، وبين توجه الدول التي ترغب في إعطاء مساحة للنمو الاقتصادي من خلال مرونة أكبر في السياسة المالية وتخفيف الإصلاحات الهيكلية كفرنسا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها من دول العجز. كذلك، فإن الجدل على مستوى الاقتصاد العالمي مستمر بين النظرة الألمانية المسيطرة في منطقة اليورو وبين توجه الولايات المتحدة التي ترى أن ما يشهده الاقتصاد العالمي حاليا من تواضع معدلات النمو الاقتصادي فيه هو نتيجة لعدم إعطاء المساحة الكافية للنمو الاقتصادي خصوصا من دول الفائض كألمانيا وبالتالي التأثير في إمكانات النمو الاقتصادي العالمي وجره إلى الركود الاقتصادي.
وهذا الجدل لن يتم حسمه أبدا لأنه كما أشرت يخضع لتأثير توجهات التيارات السياسية وليس فقط للجوانب الفنية الاقتصادية. لكننا يمكن أن نستفيد من هذه التجربة بترتيب أولويات الإصلاح خلال المرحلة الراهنة كما أشرت في المقال السابق لتعزيز الاستقرار المالي والاقتصادي وذلك وفقا للأولويات التالية:
أولا: يمثل تحقيق الاستقرار المالي على المديين القصير والمتوسط بتخفيض العجز في الموازنة أهم أولويات الإصلاح خلال الفترة الراهنة. ويتطلب ذلك إجراءات على جانبي المصروفات والإيرادات والانتقال إلى مسار موازنة يحافظ على متانة الوضع المالي للحكومة ويحافظ على ما تم بناؤه من حيز مالي خلال الفترة السابقة للاستفادة منه في تحقيق التوازن المطلوب بأقل تأثير ممكن في النمو الاقتصادي.
ثانيا: يمكن أن تحقق المملكة الكثير من المكاسب من خلال التركيز على تعزيز كفاءة الاقتصاد بشكل عام. وهذا يتضمن تعزيز كفاءة الإنفاق العام، حيث تتحقق أعلى قيمة للمال المنفق. وتعزيز كفاءة اختيار وتنفيذ المشاريع الرأسمالية بحيث تحقق أعلى عائد اقتصادي ممكن لرأس المال المستثمر. وتعزيز كفاءة الأسواق من خلال فك الاحتكارات وتعزيز آليات السوق وتنويع مصادر السلع من الدول المختلفة وفتح المجال للشركات الكبرى للمنافسة في البيع في السوق المحلي.
ثالثا: التخصيص هو إحدى الوسائل التي يمكن أن تسهم في تعزيز البيئة الاستثمارية بإتاحة المزيد من الفرص المجدية اقتصاديا للمستثمرين وبالتالي الحد من خروج رؤوس الأموال وتعزيز استقرار حساب رأس المال الخارجي. كذلك، ستسهم برامج التخصيص في حال نجاحها في تخفيف العبء على الموازنة العامة، وفي الوقت نفسه تعزيز كفاءة الأنشطة المخصصة وتعزيز كفاءة الاقتصاد. لكن في الوقت نفسه يجب أن يؤخذ في الاعتبار أن التخصيص ليس عملية سهلة وتتطلب الكثير من الإجراءات لتحديد الجهات ذات الجدوى الاقتصادية إضافة إلى إجراءات أخرى لطرح الجهات التي سيتم تخصيصها.
رابعا: أهمية الاستمرار في إصلاحات سوق العمل، لأنه في ظل تراجع التوظيف العام فإن القطاع الخاص يتوقع أن يضطلع بالجانب الأكبر في توظيف المواطنين. وهذا سيتطلب شراكة بين الدولة والقطاع الخاص للدفع بإصلاحات سوق العمل بما يحقق النمو الاقتصادي الذي يتم توزيع فوائده بشكل متوازن بين مالكي رؤوس الأموال من المستثمرين وبين القوى العاملة الوطنية. وقد يتطلب ذلك أن تركز إصلاحات العمل خلال الفترة الحالية على قطاعات تسهم في زيادة التوظف بشكل كبير كقطاع التجزئة. والتركيز على هذا القطاع سيسهم في الحد من التحويلات الكبيرة التي تستنزف الحساب الجاري، وكذلك سيؤدي إلى الحد من الواردات أو زيادة جودتها وكفاءتها ما سيمثل عائدا إيجابيا على الاقتصاد.
خامسا: يجب أن تترافق الإصلاحات السابقة مع عمل مكثف لتحسين البيئة الاستثمارية بإزالة عوائق الاستثمار وتعزيز دور المؤسسات الصغيرة والمتوسطة المعتمدة على عنصر المورد البشري وعلى الإبداع، ودعم قطاع الصناعات الموجهة للصادرات، بما يحقق قيمة مضافة أعلى للاقتصاد. وهذا يتطلب تضافر جهود عدد من الجهات على رأسها وزارة التجارة المعنية بقيادة عملية تهيئة البيئة الاستثمارية ودعم الجهات الأخرى ذات العلاقة. كذلك، يتطلب ذلك من وزارة التجارة العمل على فتح المزيد من الأسواق للصادرات السعودية من خلال التفاوض مع الدول الأخرى.
وأخيرا، فإن الضبابية وحالة عدم التأكد هي أكثر الأشياء المعوقة للاستثمار في القطاع الخاص. لذلك، فإن وضوح منهجية الإصلاح ونتائجها على المدى المتوسط سيكون مهما في تحديد تكلفة هذه البرامج وعوائدها بالنسبة للقطاع الخاص، وبالتالي سيساعد في التكيف معها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي