أولويات السياسات الاقتصادية الراهنة
يعد تصميم السياسات الاقتصادية التي تحقق النمو الاقتصادي وزيادة التوظف وتعزز التنمية الاقتصادية، عملية معقدة تشكل تحديا كبيرا لمختلف الحكومات وتحدد مصيرها ومدى ما تحظى به من الدعم في أوساط المجتمع. ويكون تصميم هذه السياسات والإصلاحات المرافقة لها أكثر تحديا خلال وقت التراجع الاقتصادي، حيث يتطلب ذلك التفضيل بين خيارات صعبة وتوزيع متوازن لتكلفة هذه الإصلاحات بين فئات المجتمع، وفي الوقت نفسه تحقيق هدف الاستقرار المالي والاقتصادي واستقرار النمو الاقتصادي على المديين القصير والطويل. وتفضيل سياسة إصلاح معينة لأنها قد تؤدي إلى تحميل فئة اقتصادية معينة ـــ رجال الأعمال مثلا ـــ بتكاليف هذه السياسة قد يحقق هدفا اجتماعيا وسياسيا مشروعا، لكنه في الوقت نفسه قد يؤدي ـــ إذا ما لم يتم اختيار الوقت المناسب له ــــ إلى تبعات على النمو والاستقرار الاقتصادي على المدى القصير وقد يمتد أثر ذلك إلى المدى الطويل. والأمر نفسه ينسحب على سياسات الإصلاح التي تستهدف فئات الأفراد، فعدم تقدير الوقت المناسب ودرجة هذه الإصلاحات قد يؤدي إلى تراجع متوسط دخل الفرد وقدرته الاستهلاكية، ما قد يؤدي إلى التأثير في النشاط الاقتصادي بشكل عام.
لذلك، فإن الهدف المشترك للجميع ـــ حكومة وأفرادا ورجال أعمال ـــ يجب أن يكون التكيف مع متغيرات أسواق النفط وتحقيق النمو الاقتصادي القوي والمتوازن والمستدام بتبني مزيج من السياسات التي تحقق الكفاءة في أداء الاقتصاد وتخفف من التشوهات الاقتصادية على أن تكون في الوقت نفسه داعمة للنمو الاقتصادي. هذا لا يعني أنه لا يجب العمل على الإصلاحات على جانبي العرض (قطاع الأعمال) والطلب (الحكومة والأفراد)، ولكن الهدف هنا ألا يؤدي أي إصلاح إلى التأثير في آفاق النمو الاقتصادي على المدى القصير، وبالتالي التأثير في إمكانات النمو الاقتصادي على المديين المتوسط والطويل. بمعنى آخر، يجب ألا يؤدي عملنا للتكيف مع متغيرات الأجل القصير (المالية العامة والسياسة النقدية) وإصلاحات الأجل الطويل (الإصلاحات الهيكلية) إلى خفض إمكانات النمو الاقتصادي potential output، وبالتالي وضع الاقتصاد في خانة ضيقة يدور حولها لفترة طويلة من الزمن دون تحقيق أي من الأهداف المطلوبة سواء على المدى القصير أو المتوسط والطويل.
والمبدأ الرئيس في تصميم هذه الإصلاحات يجب أن يرتكز على تجنب أن تكون تأثيراتها في النمو الاقتصادي متوافقة في الاتجاه مع اتجاه الدورة الاقتصادية pro-cyclical، بمعنى ألا تؤدي إلى تخفيض النمو الاقتصادي في وقت يعاني منه الاقتصاد تراجع هذا النمو بسبب تراجع الإنفاق الحكومي نتيجة لتراجع أسعار النفط. وعلى الرغم من أن السياسة المعاكسة للدورات الاقتصادية counter-cyclical هي منهج اتبعته المملكة لفترة طويلة فيما يتعلق بالإنفاق الحكومي، إلا أن تطبيق هذه السياسة يجب أن يشمل جميع جوانب السياسة المالية الأخرى وجوانب السياسات الهيكلية كإصلاحات سوق العمل والأسواق والتخصيص وغيرها، وذلك لكي تكون أكثر فعالية وداعمة للنمو الاقتصادي على المدى الطويل. قد تكون الخيارات فيما يتعلق بالسياسة المالية محدودة حاليا، ولا مناص من التكيف مع تراجع الإيرادات النفطية بتخفيض الإنفاق وزيادة كفاءته وزيادة الإيرادات غير النفطية. لكن الخطأ الذي يمكن أن نقع فيه خلال هذه المرحلة، هو تبني مجموعة من السياسات الإصلاحية الهيكلية التي تكون ذات تأثير سلبي pro-cyclical في النمو على المدى القصير حتى لو زعمنا أن تأثيرها على المدى المتوسط والطويل سيكون إيجابيا. والسبب أن الإصلاحات الهيكلية ذات التأثير السلبي في النمو في حالة التراجع الاقتصادي قد يكون له تأثير دائم في إمكانات الاقتصاد الإنتاجية كما أشرت في شكل تحول في الاستثمارات أو إحجام عنها، أو تحول في تدفقات رأس المال. والتجارب الدولية تؤكد أنه عندما تتراجع إمكانات الاقتصاد الإنتاجية فإنه من الصعب استعادتها حتى لو تغيرت الظروف، لأنها تكون قد وظفت في مجالات وأماكن جغرافية أخرى.
وقد بينت في مقال الأسبوع الماضي أنه لكي يستمر الاقتصاد في النمو فإن هناك حاجة إلى الاستمرار في الاستثمار سواء من القطاع العام أو الخاص، وهو الواقع الذي يعانيه الكثير من الدول المتقدمة التي تعاني تواضع معدلات النمو الاقتصادي خلال السنوات الأخيرة. ونظرا إلى تراجع الإنفاق الحكومي في المملكة للتكيف مع أوضاع السوق والإيرادات النفطية، فمن المهم أن يكون القطاع الخاص قادرا على التقاط العبء بضخ المزيد من الاستثمارات لكي يعوض تراجع الاستثمارات العامة. وهنا تبرز أهمية تهيئة البيئة الاستثمارية بجميع مكوناتها لكي تكون جاذبة للاستثمارات سواء المحلية أو الأجنبية. لذلك، فإن هناك حاجة إلى المزيد من العمل المكثف من قبل وزارة التجارة بالتعاون مع الجهات الأخرى للنظر في معوقات الاستثمار الصناعي والاستثمار في قطاع الخدمات وكيفية إزالتها لكي نوطن الاستثمارات ونجذب مزيدا منها من الخارج. كذلك هناك حاجة إلى تعزيز البيئة الاستثمارية للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة بمفهومها الحقيقي الذي يحقق قيمة مضافة للاقتصاد وليس بمفهومها الحالي التي تعد مجالا للتستر التجاري واستنزاف الاقتصاد من خلال الارتفاع الكبير في تحويلات العمالة الأجنبية.
هناك خط دقيق بين هدف تحقيق التوازن الاجتماعي بتحميل الفئات الاقتصادية المختلفة من المجتمع بتكاليف عادلة للإصلاحات، وبين هدف المحافظة على النمو الاقتصادي والتوظف والاستقرار المالي والاقتصادي. وهذه إحدى أهم القضايا التي يواجهها متخذو القرار الاقتصادي لأنها ليست قرارا اقتصاديا بالدرجة الأولى، ولكنها أيضا تتطلب قدرة على تقدير التكاليف السياسية والمجتمعية لهذه القرارات. وفي حين قد تحظى السياسات التي تهدف إلى تحميل فئة معينة ـــ كفئة رجال الأعمال ـــ تبعات تكاليف الإصلاحات المختلفة بشعبية عارمة في أوساط المجتمعات، يظل هناك اعتبار آخر يجب النظر إليه وهو أن ذلك قد يؤدي خلال فترات التراجع الاقتصادي إلى بيئة استثمارية غير مواتية لزيادة استثمارات القطاع الخاص وإيجاد حالة من الضبابية تؤدي إلى زيادة تدفقات رأس المال الخارجة من الاقتصاد، وتراجع لنشاط القطاع الخاص المتوافق مع تراجع نشاط الحكومة. وهذا بدوره سيؤثر بلا شك في النمو الاقتصادي وبالتالي التوظف وسيؤدي إلى ركود اقتصادي قد يأخذ فترة طويلة من الخروج منه. هذا لا يعني أننا يجب أن نعلن الاستسلام ونتوقف عن القيام بالإصلاح الاقتصادي الذي يحقق التوازن بين فئات المجتمع، بل يجب أن نرتب أولويات هذه الإصلاحات بما لا يؤثر في مسيرتها على المديين المتوسط والطويل.