الشهوانية النفسية والفكرية

أحيانا ترتدي الشهوانية ألبسة كثيرة كي لا يراها الناس، أو لا يراها صاحبها وهي على هذه الدرجة من الوضوح، وتكون دعوى الإلحاد أو الكفر عند بعضهم هي ستارة رقيقة للميل العظيم في النفس والقلب نحو الشهوانية، فالإلحاد في اللغة هو الميل عن الصواب، أو هو الميل بالمطلق، ألحد فلان: عدل عن الحقّ وأَدخل فيه ما ليس منه، وقد شاع استعماله قديما وحديثا في الذين ينكرون الألوهية، ويرفضون الإيمان بوجود الله تعالى، إلى أن توسع اللغويون في استعمال لفظة ألحد بمعنى الطعن في الدين أيضا، وهذه عبارة تحتوي القدرة على استيعاب المؤمن بالله الذي يطعن في أحكامه وشريعته ورسله وكتبه لأسباب مختلفة بعضها قد يكون مبررا ومقبولا في حدود البحث والتأمل وسعي القلب نحو اليقين بربه وتمام العقيدة والشريعة الحاكمة على الحياة وتفاصيلها. بمقدار الشبهة العقلية العارضة على إيمانه ويقين قلبه.
إلا أن المفردة ظلت بغيضة جدا في ظلالها، بما فيها من انفلات القلب عن حس الغيب، وولي الشهادة، وانحباس الإدراك بما دون الروح المضيئة بجلال الله عليها وفيها.. بما يطغى معه الحس ويغيب، وبما يحضره الوعي ويتعالى عليه، وبما تدركه النفس، وهي فقط في أعلى منازلها، وأطهر لحظات حضورها وتجليها، ذاك الغيب المفتوح بالعقل بما هو فوق العقل، والمفتوح بالحس على ما هو فوق الحس، والمفتوح بالحضور بالرؤية التي لا تراها عين، ولا يحيط بتحديدها بصر، وبها وحدها تنغمر الروح بإدراك أعمق من كل وعي وأعمق من الإدراك بكل مراتبه وأنواعه ومنازله.
تابعت في صمت تدفق الإلحاد، أبحث عن مبرراته الفكرية، أو إن كان يحتوي على رؤية فلسفية خاصة، متباعدا بقدر المستطاع والممكن عن الشهوانيين الذين يريدون للمجتمع أن يميل ميلا عظيما في الانفلات البهيمي الذي تعافه البهائم في بعض وعيها، وتحتشم منه الشياطين مع بعضها، لأن هذه الفئة لا تنطلق نحو الإلحاد من فكرة، بل تتبناه كشهوة منفلتة بلا أخلاق ولا دين. وما الإلحاد إلا مفردة لا يعي معناها، ولا يحسن تفسيرها، كغيرها من المفردات التي يتضح من كثير من مستعمليها منهم، الجهل المخجل بالدلالة والمعنى.
وكذلك يتلبس الكبت والرغبة في التمرد عند عدد غير قليل من المراهقين، مع مفهوم الانقلاب على مصادر الاستبداد والقمع الديني، في الأسرة، أو البيئة الدينية المتشددة للمجتمع، تتجه نحو الضد المقابل كردة فعل لعنف الفرض، والتلقين، والقسوة الدينية، في الحياة الخاصة والعامة. دائما يوجد تلازم بين عنف الفرض، وبين الكفر بالمفروض ولو كان صوابا.
في كتاب الله: (والله يريد أن يتوب عليكم، ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما..). الميل هنا له علة واحدة ووحيدة فقط وهي الشهوانية واتباعها، ولا توجد أسباب عقلية أو فكرية تبررها أو تنتجها.. إنما هي اتباع الشهوات التي تجعل النفس تضيق بكل منع، وتثور عند كل قيد، وتمور بالغضب عند كل حرام يحول بينها وبين ما تطلبه، وتسعى إليه، وتبتغيه من رذائل الشهوات، ومن الطبيعي أن يتصف الجدل، ومساعي الإقناع مع هذه الفئة من الناس بالحدة، والجنوح إلى العنف والاحتقار، والتهوين لكل داع يدعو إلى فضيلة حاضرة تضبط الانفلات والشهوات وميلها العظيم الذي لا يقف عند حد.
وبهذا يصبح كل جدليات الإلحاد، ودعوى التحرر المنفلتة، غطاء رقيقا لهذه الشهوة المستترة، وذاك الميل المبغوض، الذي أخبرنا الله عنه، ولم يتركه لأنه يجري في المجتمعات جريان سنن الطبائع، وصفات القلوب والنفوس.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي