بناء الوعي لهدم التطرف «1»

كتب التاريخ في مناهج التعليم في العالم العربي بحدود ما اطلعت عليه، تقدم رؤية غير ناضجة للتاريخ العربي ومجرياته ووقائعه وسريان التغير والتبدل فيه، وإن كانت فلسفة التاريخ والسعي إلى فهم أسباب أحداثه بدأت متأخرة جدا مع ابن خلدون.
إلا أن أجيالا تكون وعيها عن أسلافهم وتاريخهم أنهم (خير أمة أخرجت للناس) فحسب، ولا شيء بعدها أو قبلها. على الرغم أن الآية هي تعبر عن ميلاد عقيدة التوحيد، وظهور وعي ختم النبوة، وهي تستودع ضميرها الخالد ووعيها الممتد المنفتح على كل الأزمنة وكل الأمكنة، تاركة فينا البصائر، والهدى، وسبيل الرشاد في آياته المجيدة، لنعيش بها في الناس ولنحملها بطهر السلوك إلى العالم. إن تعظيم الذات عبر القراءة الانتقائية لماضينا وتاريخنا، جعلنا لا نتوقف عند عصر الانحطاط وفهم أسبابه، وبهذا لم نبصر حروب القتل الحرام في طائفية بلهاء، أو في صراع مسعور على السلطة، والتنازع عليه، مع فساد استوعبهم جميعا في ترد ظاهر في المعرفة والعمران والنماء والأخلاق إن هذا الجزء من تاريخنا تتباعد كل مناهج التعليم عنه ساعية إلى تمجيد ما سبقها من القرون التي خلت.
ولكن ينبغي أن نعرف أن قراءة التاريخ لا تبلغنا حكمتها إن لم نستوعبها بتمامها وبكلها، بكمالها ونقصها، برفعتها وبالانحطاط المهين الذي تردت فيه وانتهت إليه.
حين إذ .. يصبح وعينا لكلمة (السلف الصالح) أنها كلمة ليست مرسلة لكل الأزمنة التي سبقتنا، بل تتوقف عند سنوات ما قبل الانحطاط الفكري، والطائفي، والديني، والسياسي وطحن الجماجم، وحرق الأحياء، وبقر بطون الحوامل، في صراع الممالك الذي بدأ بالظهور من الدولة الأموية ويزداد شراسة موغلة في الجنون وانعدام الضمير حتى نهاية عهد المقابر الخلفية الملحقة بقصر الخليفة في العهد العثماني البائد، الذي تسلط على الأمة بذريعة الخلافة الإسلامية، التي ليس لها من استخلاف النبوة إلا اسمها الظاهر فحسب.
ليس بي غواية الرجوع إلى التاريخ، ولا بي رغبة أن نقرأ منحنياته والوقوف على تفاصيله الآن، بقدر ما ألح في بيان ضرورة تقديم صورة التحول العظيم الذي عرض على الأمة الإسلامية في تاريخها، وأن نكون أكثر نضجا في فهم حاضرنا وماضينا، كذبة أن أوروبا والعالم ما كان ليكون شيئا لولا تاريخنا نحن، وعلومنا نحن، وحضارتنا نحن.
فيه قفز على تسلسل الغياب والتراجع وعدم ذكر الانغماس البليد في صور بعيدة جدا في الجهل والتخلف، إننا لا نستعرض ما قدمته عرضا وتفصيلا (موسوعة العذاب) التي استوعبت حجم الوحشية الدموية التي سادت سلوك العرب في كثير من مراحل تاريخهم كلما أوغلوا في البعد عن عقيدتهم وإنسانيتهم.
هذا الطرح الذي أعنيه وأقصد إظهاره، يساعدنا إلى أن ننظر إلى أنفسنا بوصفنا جزءا صغيرا من تراث إنساني أكبر، وأن إسهامنا فيه كان لفترة ضيقة من الزمن في موارد محدودة، وبذا يكون تراثنا القومي هو كسائر العالم نؤثر فيمن حولنا في لحظات قوتنا، ونتأثر بغيرنا حين يتلبسنا الضعف والعجز، وبهذا يجب التفريق بين إسلامنا القائم بنفسه، وبين تراثنا وما نكون عليه، إذ ليس بالضرورة أن نكون نحن الصورة الصحيحة عنه.
هذا الوعي يجعلنا نعيد النظر أيضا إلى الفقه والفتوى بحسب ظرفها في الزمان والمكان والظروف المحيطة والمؤثر القاهر، إن بعض الفتاوى رغم شهرتها، قادمة إلينا من عصر الانحطاط وبيئته، وعقله الفاسد، وليست من تلك المنابع النقية التي تمثل نقاء العقيدة وطهر النص الديني دون أي غرض دنيوي أو فهم ساذج لها، وبهذا نوجد مسافة عاقلة بين رجال الدين وبين الدين نفسه، وبين إدراكهم وفهمهم، وبين عقيدتنا التي هدانا الله إليها، ومن علينا بها. لنبدأ تصويب المفردات فعوض أن نقول الفلسفة الإسلامية نصوبها لفلسفة المسلمين بما لهم وما عليهم. وعوض رأي الإسلام إلى الرأي الفقهي، والاجتهاد فيه، ومن ثم سنشعر بقابلية الصواب والخطأ، وإمكان الفهم، والرضا عن الاجتهاد والاجتهاد المقابل له، إن لكل فهم أسبابه في زمانه ومكانه .. وحين ذاك يتحول مفهوم أننا جزء بسيط من العالم يسهم في تكوين وعي التقبل الناضج، والمنفتح على التنوع بحب. وليس بتسامح لأنها عبارة تفترض التنازل عن أمر يفتقر إلى قدر من المغفرة والصفح.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي