مواجهة تحديات الموازنة بالتحول الاقتصادي
تعد الموازنة العامة للعام القادم 2016 من أكثر موازنات المملكة التي جذبت الاهتمام خلال السنوات الأخيرة، وتطلع إليها الجميع: المسؤول والمواطن والمستثمر، سواء في داخل المملكة أو خارجها، بسبب ظروف أسواق النفط العالمية، مما يثير الكثير من التكهنات حول الكيفية التي ستتعامل بها المملكة مع هذا الانخفاض الكبير. لكن المقارنات الخاطئة غالبا ما تقود المتابعين والمحللين خصوصا من خارج المملكة إلى استنتاجات خاطئة بسبب (1) المقارنة بسياسة المملكة لمواجهة هذا الانخفاض خلال فترات سابقة، (2) والخلط الكبير بين المخاطر على المدى القصير وبين المخاطر على المديين المتوسط والطويل بالنسبة للمملكة، (3) وأخيرا، الاعتماد على افتراضات خاطئة حول سياسة المملكة في التعامل مع انخفاض أسعار النفط وتأثيرها على الإيرادات العامة.
سأحاول هنا إلقاء الضوء على هذه الجوانب الثلاثة ووضعها في إطار الموازنة التي أعلنتها المملكة أخيرا لعلها توضح الصورة بشكل أفضل:
أولا: الوضع على المدى القصير؛ هناك شبه اتفاق على بين كل المهتمين بالوضع الاقتصادي للمملكة بأن الوضع المالي الذي تواجه به المملكة انخفاض أسعار النفط الحالي هو أفضل بكثير من الظروف السابقة التي واجهت بها انخفاضات مماثلة. بمعنى آخر، المملكة لا تواجه حاليا أزمة مالية آنية، لكنها بالتأكيد تحتاج للبدء فورا في التكيف مع التغير في أسعار النفط وتراجع إيرادات الموازنة العامة لضمان الاستقرار على المديين المتوسط والطويل. من أهم الظروف التي تعزز موقف المملكة وجود حيز مالي كبير سواء من خلال بناء الاحتياطيات المالية (تتجاوز 600 مليار دولار)، أو من خلال انخفاض الدين العام من مستوى تجاوز 100 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في نهاية التسعينيات الميلادية وبداية الألفية الجديدة إلى مستوى يقل عن 5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. كذلك عملت المملكة على بناء الحيز المالي بشكل غير مباشر من خلال الاستثمار الكبير في البنية التحتية، مما يعطي المملكة حيزا كبيرا في تخفيض مستويات الإنفاق دون التأثير في النمو الاقتصادي. وأخيرا، يواجه القطاع المصرفي في المملكة هذه الظروف بملاءة مالية عالية (كفاية رأس المال تتجاوز 17 في المائة)، ونسبة منخفضة جدا لتعثر القروض.
الإنفاق الفعلي خلال سنة 2015 بلغ قرابة 975 مليار ريال، وهو أقل من الإنفاق خلال العام السابق له الذي بلغ 1.1 تريليون ريال، بينما قدر الإنفاق في الميزانية لعام 2016 بـ 840 مليار ريال. وهذا يؤكد أن المملكة تطبق سياسة متدرجة في تكييف الإنفاق العام، وهو ما يتفق مع السياسة المالية المعلنة للمملكة، وكذلك فإن جزءا كبيرا من التكيف في الإنفاق جاء من خلال تعزيز الكفاءة في إدارة المشاريع الرأسمالية، بحيث تحقق قيمة أعلى للمال المستثمر فيها.
ثانيا: أين يكمن التحدي الأكبر للمالية العامة في المملكة؟
التحدي الأكبر يتمثل في المديين المتوسط والطويل، مما يعني أن هناك أولوية مهمة للتركيز على استدامة المالية العامة، بما في ذلك المحافظة على حيز مالي كبير سواء في جانب الاحتياطيات أو في جانب الدين العام لعدة أسباب. أول هذه الأسباب أن استدامة المالية العامة في المملكة تحقق الاستقرار الاقتصادي بجميع جوانبه، بما في ذلك النمو الاقتصادي، والقطاع الحقيقي، والقطاع الخارجي، والقطاع المالي، واستقرار سعر الصرف. وثاني الأسباب لأنها هي الدعامة الرئيسة للثقة بمتانة السياسة الاقتصادية، وبالتالي إمكانية جذب مزيد من الاستثمارات الرأسمالية للمساهمة في تمويل مشاريع تخصيص القطاعات العامة. وهذه الثقة يعززها وجود استراتيجية مالية عامة على المدى المتوسط، يلتزم بتطبيقها بشكل دقيق، ويتواصل مع العامة بشأنها، لتوضح خطة الحكومة لضمان وضع مالي مستقر على المديين المتوسط والطويل. لذلك فإن مكمن الخطر الحقيقي بالنسبة للمملكة ليس في وجود أزمة خلال عام 2016، بل مكمن الخطر الحقيقي هو الاستكانة وعدم العمل على تعزيز مكاسب السنوات الماضية بتعزيز الاستقرار والنمو الاقتصادي المستدام من خلال تحقيق التحول الاقتصادي المطلوب.
ثالثا: التحول الاقتصادي المطلوب؛ النقطة الأخيرة هي الافتراضات الخاطئة حول استجابة السياسة الاقتصادية للمملكة، التي تم نفيها بشكل قطعي من خلال مبادرة التحول الاقتصادي التي يقودها الأمير محمد بن سلمان، ولي ولي العهد وزير الدفاع رئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية. المبادرة تتبنى منهجا جديدا في التعامل الاستباقي مع التحديات الاقتصادية للمملكة على المديين المتوسط والطويل، خصوصا تلك المتعلقة باستدامة المالية العامة. خلاصة هذه المبادرة، أننا إذا أردنا اقتصادا متنوعا، وأقل تأثرا بالتقلبات في أسعار النفط، فيجب أن نقلل من الاعتماد على إيرادات النفط لتمويل الإنفاق العام. المبادرة تستهدف إيجاد توازن بين دور القطاع العام ودور القطاع الخاص في الاقتصاد، والهدف أن يكون هناك دور أكبر للقطاع الخاص في تقديم الخدمات وإيجاد الوظائف والمساهمة بشكل أكبر في النمو الاقتصادي. المبادرة تسعى أيضا لتحقيق مزيد من المكاسب من خلال تعزيز الكفاءة في القطاع الحكومي، بما يحقق الوفر في كثير من مجالات الإنفاق، ويزيد من القيمة بالنسبة للمال المنفق. كذلك تستهدف هذه المبادرة زيادة الإيرادات غير النفطية، بما يحقق التكامل بين التكيف في وضع المالية العامة خلال المديين المتوسط والطويل، وبين مبادرة التحول الاقتصادي دون التأثير في النمو الاقتصادي وإيجاد الوظائف وتحقيق رفاهية المواطن.
التحدي الأكبر لمبادرة التحول الاقتصادي هو في وضعها موضع التنفيذ، وهذا يتطلب وجود مؤسسات حكومية وموارد بشرية قادرة على فهم واستيعاب وترجمة أهداف المبادرات الاقتصادية الإصلاحية إلى واقع عملي. كذلك، هناك حاجة لترتيب أولويات المبادرات المختلفة والتدرج في تطبيقها بما يمنح الجميع الفرصة للتكيف مع متغيراتها. وأخيرا، من المهم مراعاة التأثير في مستويات الدخول المتوسطة والمنخفضة لحمايتها من التأثير السلبي لهذه المبادرات، بحيث يتحقق هدف توزيع الدخل بشكل عادل.