الادخار ودوره الإستراتيجي في رؤية 2030
الادخار بالنسبة للأفراد هو بمنزلة شبكة أمان مالي لمواجهة الطوارئ والصدمات، ولكن نظرة صانعي السياسات للمدخرات تختلف، فالادخار في هذه الحالة هو وسيلة وليس غاية، إن لم يتم استغلالها على المستوى الأمثل تكون معدومة الفائدة. والحديث يدور هنا عن تحويل الادخار الساكن إلى استثمار نشط لتمويل المشاريع ودعم الاقتصاد.
وتلك معادلة تتوزع فيها الأدوار، من الفرد الذي يرسم خططه المالية لزيادة الادخار، إلى المؤسسات المالية التي توفر البيئة والحوافز الجاذبة للمدخرين، إلى الحكومات التي تحسن استخدام الأموال لتحقيق أهدافها وتعزز من العوائد الاقتصادية والاجتماعية.
وفقاً لبيانات صندوق النقد الدولي، فقد وصلت نسبة الادخار في السعودية من الناتج المحلي الإجمالي في 2024 إلى 29.5%، تبدو تلك النسبة جيدة عند مقارنتها بنسب الادخار في الولايات المتحدة وبريطانيا التي وصلت إلى 17.3% و14.3% على التوالي خلال العام نفسه.
ولكن تحتاج مستويات الادخار الحالية إلى دفعة قوية ورؤية طموحة تمكنها من القفز والاقتراب من مستويات تنافس دولة مثل الصين، التي بلغت نسبة الادخار فيها نحو 42.7% من الناتج المحلي في 2024.
يزخر العالم بكثير من تجارب الادخار الناجحة، في إسكندنافيا حيث تقع دولة السويد، ففي 2012 أطلقت الحكومة حساب توفير استثماري يعرف باسم "ISK" يقوم على أن أي شخص لديه حساب مصرفي يستطيع الاستثمار في أسواق الأسهم دون الخضوع لضريبة رأس المال والتداول عن طريق تطبيقات الهاتف المحمول.
النتائج كانت مذهلة، حيث تحولت نصف الأسر السويدية إلى استثمار نصف مدخراتها في قطاع الأسهم، فيما أصبح نحو 25% من السويديين يمتلكون أسهما مباشرة في شركات مدرجة بالبورصة.
في سنغافورة واحدة من أهم تجارب التنمية في العصر الحديث، تمتلك الدولة نموذجا قويا لتعزيز الادخار المحلي. حيث قامت بإنشاء ما يعرف بـ"صندوق الادخار المركزي" هو صندوق إلزامي، ينص على دفع الموظفين جزءا من رواتبهم الشخصية شهريا، مقابل توفير التمويل لامتلاك المساكن، وتقديم الرعاية الصحية ومزايا التقاعد.
حقق النموذج نتائج واضحة، حيث وصلت نسبة الادخار إلى الناتج المحلي في 2024 إلى 40%، بينما أصبحت سنغافورة تملك واحدة من أقوى أنظمة الرعاية الصحية في العالم، وفي 2024 وصلت نسبة تملك المنازل إلى 91% للمواطنين.
في ضوء نتائج التجارب فإن تعزيز ثقافة الادخار بهدف بناء اقتصاد ديناميكي قادر على المنافسة عالميًا، إطلاق العنان لقوة المدخرات المحلية عبر توفير القنوات التي تسهل تدفقها إلى شرايين الاقتصاد، ما يسهم في دعم خطط التحول الاقتصادي في السعودية.
فتجربة سنغافورة في تمويل تملك شراء العقارات عن طريق الادخار الإلزامي ستحقق واحدة من أهم اهداف الرؤية وهي الوصول بنسبة تملك المواطنين للمنازل إلى 70% بحلول 2030، وذلك دون ضغط على النظام المصرفي. كما أن توجيه المدخرات إلى سوق الأسهم ومعالجة مشكلة نقص السيولة وتوفير التمويل للشركات سيسهم في تعزيز الحضور القوي للسوق المالية السعودية ليس فقط على المستوى الإقليمي ولكن العالمي.
خطة زيادة الادخار تحتاج إلى سياسات شاملة تلائم ثقافة المجتمع.
تبدأ من المدارس والجامعات عبر تشجيع التلاميذ والطلاب على الادخار في صناديق داخلية تستثمر مدخراتهم بشكل مباشر في أدوات استثمارية.
وتصل إلى العاملين في المؤسسات والشركات لإنشاء صناديق تقاعد تكون بمنزلة وعاء مالي عند الطوارئ وحائط أمام الصدمات المالية. وحتى الإعلام الذي يؤدي دورا مهما في تعزيز الادخار، ومكافحة الاستهلاك المفرط غير الضروري.
توفر التكنولوجيا حلولا مهمة لحشد المدخرين، فالمحافظ الرقمية ومنصات الادخار المتاحة على الهواتف المحمولة، والتوسع في استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي وربطها بالبنية التحتية للقطاع المصرفي، كلها عوامل تعزز من الشفافية وتفتح قنوات جديدة للادخار النشط.
في الختام فالادخار كنز لمن يحسن استخدامه ويحوله إلى أداة لتمويل التنمية ودعم الاستثمار. وفي ظل الرؤية الطموحة للسعودية والرغبة في التحول نحو اقتصاد مرن، يعتمد على القطاعات ذات القيمة المضافة، فإن السعودية في حاجة إلى بناء منظومة مبتكرة تعزز من ثقافة الادخار للتركيبة السكانية الشبابية، وذلك عبر التوسع في منصات الادخار الرقمية مع استخدامها في تغذية رأس المال المحلي ودعم الاستثمار.
مستشارة اقتصادية