النظريات النمطية وصعود اقتصاديات السلوك

لطالما اعتُبر الإنسان في النظريات الاقتصادية كائناً عقلانياً يتخذ قراراته بناء على حسابات دقيقة لمصلحته الشخصية، لكن هذه الصورة النمطية بدأت تتغير بشكل جذري مع صعود "اقتصاديات السلوك" التي مزجت بين علم النفس والاقتصاد لدراسة كيفية اتخاذ الناس قراراتهم في الواقع.
كانت نقطة التحول عندما حصل العالم " ريتشارد ثيلر " على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2017 عن عمله الرائد في هذا المجال. أثبت " ثيلر " أن البشر ليسوا كائنات عقلانية تماماً، بل لديهم تحيزات نفسية تؤثر في قراراتهم مبنية على الخبرة والبيئة والمجتمع والعلاقات، إضافة إلى الربط بين الأشياء بطريقة قد تكون بدائية بعض الشيء. من هذه الرؤية ولدت فكرة "الدفعة" أو Nudge التي تعني تغييرات بسيطة في طريقة عرض الخيارات يمكن أن تقود الناس إلى قرارات أفضل دون تقييد لحريتهم.
لم تبق هذه الأفكار في الأوراق الأكاديمية، بل غيّرت سياسات دول كبرى. ففي برنامج "الاشتراك التلقائي" في الولايات المتحدة، عندما جُعل انضمام الموظفين لخطة التقاعد تلقائياً، ارتفعت نسبة المشاركة من 60% إلى أكثر من 90% من خلال برنامج وفر للمستقبل. وفي مقاصف المدارس، أدى وضع الفواكه والخضروات على مستوى العين إلى زيادة استهلاكها بنسبة 25% دون أي محاضرات عن التغذية أو تغيير للأسعار. وعندما بدأت شركات الكهرباء إرسال فواتير تقارن استهلاك العميل "المسرف" بجاره "المقتصد"، انخفض الاستهلاك بنسبة 2-5% على المستوى الوطني في عدة دول أوروبية , ولمعالجة مشكلة تأخر سداد الضرائب والديون في تجربة بريطانية تم إضافة صورة العيون على خطابات التذكير (لإثارة الشعور بالمراقبة) وهذا أدى إلى زيادة معدلات السداد بنسبة 15%.
وهناك أمثلة كثيرة للاستفادة من النظرية، ففي مجال التحفيز على التبرع بالأعضاء
جعل التسجيل افتراضياً (يجب عليك الاعتذار وليس التسجيل) وهذا قفز بمعدلات المسجلين إلى أكثر من 98% في دول مثل النمسا والسويد. في الإطار نفسه ولمعالجة إهمال المواعيد الطبية أدى إرسال رسائل تذكير مخصصة مع توضيح تكلفة الإلغاء على النظام الصحي إلى انخفاض معدلات الإلغاء بنسبة 38% في تجربة بالمملكة المتحدة.
في التعليم مثلاً ولمعالجة تسرب الطلاب في مسارات التعليم الإلكتروني , أدى إرسال تنبيهات آلية عند خطر التأخر أو التوقف لزيادة معدلات الإكمال بنسبة 20% في منصات مثل edX وCoursera.لم تعد "الدفعات" مجرد أدوات تسويقية، بل أصبحت أدوات رئيسية تحكم سياسات الاقتصاد في كثير من دول العالم. فقد أنشأت أكثر من 200 حكومة حول العالم وحدات "الدفعة السلوكية" داخل أجهزتها. وأصبحت الاختبارات الميدانية العشوائية Randomized Controlled Trials معياراً ذهبياً لقياس فعالية التوجهات قبل تطبيقها على نطاق واسع.
لكن هذا النهج واجه انتقادات جدية. حيث يتساءل البعض عن الأخلاقيات من حيث من يقرر ما هو "القرار الأفضل" للمستهلك ؟ هل يحق لنخبة من الخبراء ذلك ؟ كما أشار منتقدي هذا التوجه إلى أن "الدفعات" فعالة في القرارات البسيطة ، لكنها قد لا تكفي لمعالجة مشكلات أساسية كالفقر. كما أثار استخدام البيانات السلوكية الفردية مخاوف جدية حول الخصوصية.
رغم هذه الانتقادات، فإن تأثير اقتصاديات السلوك يبقى عميقاً. لقد حولت السياسة الاقتصادية من الاعتماد على النماذج المجردة إلى فهم الواقع الإنساني المعقد. ونجحت في سد الفجوة بين ما تقوله النظرية الاقتصادية وما يفعله الناس حقاً.
الدرس الأكبر هو أن الاقتصاد أصبح أكثر إنسانية. التغييرات الصغيرة الذكية، المدعومة بفهم عميق للسلوك البشري، يمكن أن يكون لها تأثير هائل في الرفاهية الفردية والكفاءة الاقتصادية الوطنية. لقد تعلم الاقتصاد أخيراً كيف يستمع إلى الناس، لا كيف يُصغي فقط إلى نماذجه الرياضية.
هذا التحول يمثل انتصاراً للواقعية على التجريد، وللفهم الإنساني على الافتراضات المبسطة. إنه يذكرنا بأن الاقتصاد في النهاية علم اجتماعي يدرس سلوك الناس الحقيقيين، وليس مجرد نماذج رياضية مجردة. المستقبل سيكون للاقتصاد الذي يفهم الطبيعة البشرية بكل تعقيداتها، ويصمم سياساته بناء على هذه الفهم الواقعي.
كاتب اقتصادي

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي