مستقبل المحامين بين تجزئة الخدمات والتكنولوجيا القانونية

في أواخر القرن 19 بدأت ملامح سوق الخدمات القانونية تتغير مع صعود شركات المحاماة الكبرى في أمريكا الشمالية، التي أخذت تزاحم مكاتب المحامين الصغيرة وتعيد تشكيل قواعد اللعبة. وعلى مدى الـ25 عامًا الأخيرة، تَطوّر هذا النموذج حتى تحولت بعض تلك الشركات إلى كيانات دولية مترامية النفوذ.

واليوم يشهد المشهد القانوني تحولًا مشابهًا، لكنه أكثر عمقًا، مع بروز مقدمي الخدمات القانونية البديلة، أو ما يُعرف بـAlternative Legal Service Providers (ALSPs)، الذين اقتحموا الساحة بأسلوب أكثر جرأة، يجمع بين التكنولوجيا القانونية (LegalTech) ورأس المال البشري المتنوع.

تعود جذور هذا النموذج إلى مطلع الألفية، حين بدأت الشركات متعددة الجنسيات تبحث عن طرق لتقليل كلفة المهام القانونية الروتينية مثل مراجعة الوثائق والامتثال التنظيمي. آنذاك وُلدت فكرة إسناد بعض العمليات إلى كيانات خارجية، لكنها سرعان ما نمت لتتحول إلى صناعة قائمة بذاتها. ومع مرور الوقت، لم يعد الأمر مجرد "استعانة بمصادر خارجية"، بل أصبح نموذجًا متكاملًا منافسًا للمكاتب التقليدية. ورغم الحذر الذي تعاملت به الجهات التنظيمية في البداية، خشية أن يقوض هذا التوجه مكانة المهنة، إلا أن الطلب المتزايد في السوق أجبرها على التكيف بدلًا من المقاومة. وكانت الولايات المتحدة وبريطانيا في طليعة الدول التي وضعت أطرًا أكثر مرونة، بينما لحقت بهما أوروبا وآسيا تدريجيًا.

هذا التحول لم يأتِ من فراغ؛ فقد سبقه تنظير فكري مبكر، قاده المفكر القانوني ريتشارد سسكيند، الذي أطلق منذ 1996 في كتابه "مستقبل القانون" رؤيته الجريئة لإمكانية إدارة القانون بطرق تختلف جذريًا عن النمط التقليدي. ثم واصل دعوته في كتب لاحقة مثل "نهاية المحامين؟" و"محامو الغد"، التي بدت حينها استفزازية، لكنها تحولت لاحقًا إلى خارطة طريق لتطور شركات ALSPs فقد تبنت هذه الشركات ما نادى به سسكيند من تفكيك الخدمات القانونية إلى وحدات أصغر، إدماج التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، الاستعانة بمتخصصين غير محامين، وخلق بيئة تنافسية تقوم على القيمة بدلًا من الهيبة التاريخية للمكاتب الكبرى.

تتصدر شركات مثل Axiom وElevate  و UnitedLex المشهد العالمي حاليًا، فيما دخلت الشركات الـ4 الكبرى(Deloitte, PwC, EY, KPMG) ثقلها إلى هذا القطاع، مسلحةً بخبراتها في التدقيق والاستشارات. وقد غيّر هذا الحضور قواعد المنافسة، بفضل ما تمتلكه تلك المؤسسات من بنية تحتية مالية وتقنية مكّنتها من اقتطاع حصة متزايدة من السوق. فما يميز شركات ALSP هو قدرتها على المزج السلس بين القانون والتكنولوجيا. فهي جزء لا يتجزأ من ثورة LegalTech، حيث تُستخدم الخوارزميات والذكاء الاصطناعي لتحليل العقود، وتُوظف تقنيات التعلم الآلي للتنبؤ بمسارات النزاعات، بينما تُدار ملايين الوثائق عبر منصات رقمية مؤتمتة. هذا الدمج لم يغير طريقة العمل فحسب بل أعاد صياغة هوية المهنة القانونية في جوهرها.

أمَّا على صعيد نموذج الأعمال، فقد كسرت شركات ALSP قيود الجمود التي ارتبطت لعقود بالمكاتب التقليدية. لم تعد الأتعاب محصورة بالفوترة بالساعة، بل ظهرت خيارات جديدة مثل الأسعار الثابتة أو الاشتراكات الشهرية التي تمنح العملاء حزمًا قانونية بتكلفة محددة مسبقًا. هذه المرونة أسقطت احتكار المكاتب لنظام الأتعاب التقليدي الذي لطالما أثار امتعاض العملاء. وإضافةً إلى ذلك، تتمتع هذه الشركات بميزة غير متاحة للمكاتب التقليدية تتمثل في إمكانية الإدراج في البورصة، وهو ما جذب استثمارات ضخمة ورؤوس أموال جريئة أسهمت في تطوير حلول تكنولوجية متقدمة.

ولم يمر هذا التحول دون اعتراف رسمي؛ فقد أضاف دليل Chambers & Partners -وهو من أبرز المراجع العالمية في تصنيف مكاتب المحاماة- فئة جديدة تحت اسم "الاستعانة بمصادر خارجية للعمليات القانونية"(LPO)، في إشارةٍ واضحةٍ إلى أن هؤلاء اللاعبين الجدد أصبحوا جزءًا أصيلًا من الصناعة. وتشير التقارير البحثية إلى أن اقتصاد هذه الشركات ينمو بمعدل يفوق 10% سنويًا، مع توقعات بتجاوز حجم السوق عشرات المليارات خلال العقد القادم، حيث انعكس هذا النمو أيضًا على سلوك العملاء، الذين لم يعودوا يبحثون عن المكتب الأشهر أو الأضخم، بل عن الجهة الأقدر على تقديم خدمة أسرع وأكثر شفافية وأقل تكلفة.

وهكذا لم يعد النفوذ في عدد الشركاء أو قدم المؤسسة، بل في مدى القدرة على دمج التكنولوجيا وتقديم قيمة حقيقية.

أمَّا في المنطقة العربية، فالتأثير يبدو في طريقه للتعاظم مع توسع الاستثمارات في التحول الرقمي وتزايد حاجة الأسواق إلى كفاءة أكبر في إدارة التكاليف القانونية. ولم تعد الشركات العالمية تركز فقط على أمريكا وأوروبا، بل باتت تنظر إلى العالم كسوق مفتوح، تمامًا كما فعلت تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي تجاوزت الحدود بلا استئذان. من هنا، يمكن القول إن ALSP ليست مجرد بديل عابر، بل هي ملامح عصر جديد يعيد رسم حدود المهنة القانونية، ويمتد أثره إلى منطقتنا ليضع العملاء أمام خيارات أوسع، ويفتح أمام المهنة القانونية آفاقًا غير مسبوقة من التخصص والابتكار.


مستشار قانوني

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي