الاتحاد الأوروبي وتغيير موازين القوى

تشهد بروكسل هذه الأيام حراكاً تفاوضياً مكثفاً يعيد رسم سياستها التجارية. فبعد صدمات جائحة كورونا التي كشفت هشاشة سلاسل الإمداد، والحرب الروسية على أوكرانيا التي قلبت معادلات الطاقة، ومع احتدام المنافسة بين واشنطن وبكين، بات الاتحاد الأوروبي أكثر وعياً بضرورة الجمع بين الانفتاح على الأسواق العالمية وتقليص الاعتماد على طرف واحد. هذا ما تصفه بروكسل بـ«الاستقلالية الإستراتيجية المنفتحة»: انفتاح على التجارة مع بناء قدرة ذاتية في القطاعات الحساسة مثل أشباه الموصلات والطاقة والمعادن النادرة.
وفي هذا الإطار يسرّع الاتحاد الأوروبي إبرام اتفاقيات التجارة الحرة والشراكات الاقتصادية مع شركاء رئيسيين لتعزيز نفوذه الجيو–اقتصادي. فقد شهدت مفاوضاته مع الهند في أكتوبر 2025 اختراقاً حاسماً بحسم أكثر من 60% من فصول الاتفاق بعد عقدين من الخلافات حول الرسوم الزراعية وتعريفات السيارات والمشروبات الكحولية ومعايير البيئة.
وتكرر المشهد مع إندونيسيا التي توصلت في يوليو الماضي إلى اتفاق سياسي بعد أكثر من 10 جولات تفاوضية تناولت صادرات زيت النخيل والالتزامات المناخية. كما أنهى الاتحاد في يناير 2025 تحديث اتفاقيته مع المكسيك مضيفاً فصولاً للتجارة الرقمية والمشتريات الحكومية، بينما رفع في سبتمبر الماضي النص النهائي لاتفاق «ميركوسور» إلى مجلس الاتحاد والبرلمان لبدء المصادقة رغم استمرار الجدل حول حماية غابات الأمازون.
هذا التسارع في إبرام الصفقات يبرز إدراكاً أوروبياً لفرصة جيوسياسية قد لا تدوم، ما يدفع بروكسل لإغلاق الملفات العالقة قبل تغيّر موازين القوى. ومع اكتمال التفاهمات السياسية، تنتقل الاتفاقيات سريعاً إلى المسار التنفيذي والإقرار القانوني، لتتحول من تفاهمات إلى التزامات قابلة للتنفيذ تدعم استقلال أوروبا الاقتصادي وتوسع حضورها في التجارة العالمية.
وتتضمن هذه الاتفاقيات فصولاً ملزمة للتنمية المستدامة، تُلزم الأطراف بالتمسك باتفاق باريس للمناخ والحفاظ على مستويات الحماية البيئية والعمالية، مع آليات متابعة وتسوية نزاعات خاصة. صُممت هذه البنود كأداة إستراتيجية لتسريع بناء اقتصاد أوروبي أخضر وتقليص الاعتماد على الطاقة الأحفورية، بما يمنح القارة ورقة لإعادة توزيع موازين القوى في الاقتصاد العالمي.
فتعزيز الاستثمار في الطاقات المتجددة والابتكار البيئي لا يلبّي فقط متطلبات الاستدامة، بل يرسّخ موقع أوروبا كقوة قيادية في قطاعات النمو المستقبلي ويحوّل التحول الأخضر إلى أداة نفوذ تعيد رسم خريطة الاقتصاد الدولي، مستخدمة أسواقها كمعيار لهذا.
وهذا التحول هو وسيلة لإعادة تشكيل موازين القوى في سوق الطاقة العالمي، فخفض الاعتماد على النفط والغاز الروسيين يقلّل المخاطر الجيوسياسية، فيما يمنح السبق في تطوير التقنيات والصناعات النظيفة ميزة تمكّن أوروبا من قيادة اقتصاد الطاقة الخضراء وفرض معاييرها على الآخرين. هذا التفوق يضغط على الدول المعتمدة على مصادر الطاقة التقليدية ويدفعها إلى تسريع الانتقال نحو مصادر متجددة ورفع قدراتها التكنولوجية، ما يسرّع إعادة توزيع النفوذ الاقتصادي عالمياً ويكرّس موقع الاتحاد الأوروبي كصانع رئيسي لقواعد الاقتصاد منخفض الكربون.
هكذا لا تكتفي بروكسل بإبرام صفقات تجارية؛ بل توظفها لتأمين أسواقها وصناعاتها، وتعزّز قدرتها على الاستغناء عن مصادر الطاقة التقليدية، وتسرّع مع شركائها خطوات الانتقال للأخضر وضرب منافسيها ممن يملكون الطاقة الاحفورية، لتتحول من لاعب يتكيف مع قواعد الاقتصاد العالمي إلى طرف يصوغ تلك القواعد ويمسك بزمام المبادرة في مرحلة اقتصادية عالمية جديدة.

مستشار في الشؤون الدولية والإستراتيجيات العالمية

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي