السلاحف البحرية ليست الضحية الوحيدة للبلاستيك
جزيئات البلاستيك تغزو أعضاء الإنسان وترتفع نسبتها في الكبد والدماغ
- نصف كمية البلاستيك عبر التاريخ صُنعت بعد 2010 والإنتاج مرشح لتجاوز مليار طن سنوياً
- البلاستيك يعزز مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية ويسهم في انتشار أمراض مثل زيكا وحمى الضنك
-
إليك حقيقة قد تُشعرك بعدم الارتياح: أدمغتنا تحتوي على جزيئات بلاستيكية. والأمر لا يقتصر على الدماغ فحسب، بل رُصدت هذه الجزيئات الدقيقة أيضاً في الكبد والكلى والقلب ومجرى الدم. وإذا لم يُثر ذلك قلقك بعد، فاعلم أن العلماء رصدوا تزايداً في هذه الكميات داخل أجساد البشر خلال السنوات الثماني الأخيرة. فقد قارنت دراسة نُشرت في مجلة "نيتشر" العلمية بين عينات من الأعضاء البشرية مأخوذة بعد حدوث الوفاة في عامي 2016 و2024، ووجدت أن العينات الأحدث احتوت على تركيزات أعلى بكثير من مادة البلاستيك في الكبد والدماغ.
قد تتساءل: هل يُحدث ذلك فرقاً إذا كنا جميعاً نتحول تدريجياً إلى كائنات "شبه بلاستيكية"؟ (حتى المواليد الجدد تحتوي أجسامهم على البلاستيك). ما الضرر في جزيئات صغيرة كهذه؟ لطالما صُوِّرت أزمة البلاستيك من خلال صور كائنات بحرية تختنق بأكياس وشفاطات بلاستيكية، ما جعل الأزمة تبدو وكأنها تخص أعماق المحيط فقط. لكن الحقيقة أن الأمر أسوأ بكثير مما كنا نتصور.
خطر البلاستيك
مجلة "ذا لانسيت" (The Lancet) الطبية المحكمة وصفت التلوث البلاستيكي بأنه "خطر جسيم ومتنامٍ ولم يُعط حقه من الاهتمام"، وذلك في ورقة بحثية نشرتها هذا الأسبوع لإطلاق نظام عالمي لرصد التقدم في جهود الحد من أضراره.
لا شك أن للبلاستيك فوائد مهمة. ساعد البلاستيك في تطور مجالات مثل الطب والهندسة والإلكترونيات. على سبيل المثال، مكننا من تصنيع أدوات طبية معقمة تُستخدم لمرة واحدة مثل القسطرات والحقن، ما يقلل من خطر العدوى. كما أن خفة وزنه ساعدت في تحسين كفاءة الوقود للمركبات، وأدى استخدامه في العزل إلى تحسين أمان الأجهزة الإلكترونية. لكن لأن الأضرار البيئية والصحية الناتجة عن استخدام البلاستيك لا تُحسب ضمن تكلفة الإنتاج، أصبح هذا المنتج رخيصاً ومتوفراً للجميع، ما جعل من السهل الاعتماد عليه في كل شيء، من أكواب القهوة الجاهزة إلى الملابس الرخيصة.
غير أن إدماننا للبلاستيك، الذي لا يتحلل طبيعياً، يزيد الأزمة سوءاً. فقد قفز الإنتاج السنوي العالمي من مليوني طن فقط في 1950 إلى 475 مليون طن في 2022. نصف كمية البلاستيك التي صُنعت في التاريخ أُنتجت بعد 2010. وإذا لم تُتخذ إجراءات حاسمة، فمن المرجح أن نصل إلى إنتاج 1.2 مليار طن سنوياً بحلول 2060. بما أن هذه المواد لا تتحلل بل تتفكك إلى جزيئات أصغر فأصغر، فهذا يعني أننا سنضيف مليارات الأطنان إلى النُظم البيئية والمسطحات المائية وأجساد البشر.
جوانب ضرر البلاستيك
هناك جوانب متعددة لضرر البلاستيك على الصحة. يوجد أكثر من 16 ألف مادة كيميائية قد تكون موجودة في المنتجات البلاستيكية، من بينها مثبطات اللهب، والمواد المعروفة باسم بيرفلوروألكيل وبوليفلوروألكيل (PFAS)، ومركب الـ"فثالات". تتنوع الآثار الصحية الناتجة عن التعرض لهذه المواد لتشمل جميع مراحل العمر، من الإجهاض وانخفاض الوزن عند الولادة إلى أمراض القلب والسرطان. المثير للقلق أكثر أن بيانات تقييم مخاطر هذه المواد غير متاحة علناً لأكثر من ثلثي هذه المواد الكيميائية، ما يعني أننا لا نعرف حجم الخطر الذي نواجهه.
إضافة إلى ما تحتويه من مواد ضارة، فإن الجزيئات الدقيقة والنانوية من البلاستيك تتراكم في أجسامنا، وتتجاوز الحواجز الطبيعية في الجسم مثل الحاجز الدموي الدماغي والمشيمة. رغم أن البحث العلمي في هذا المجال ما يزال في مراحله الأولى، فقد أشارت دراسات إلى وجود صلة محتملة بين الميكروبلاستيك وأمراض الرئة والتهاب القولون التقرحي والسكتات الدماغية وغيرها من الحالات الصحية.
هناك أيضاً عواقب صحية غير متوقعة تبدو غريبة للوهلة الأولى. فمَن كان يتخيل أن النفايات البلاستيكية تسهم في انتشار الأمراض المنقولة عبر الحشرات مثل "حمى الضنك" و"زيكا"، من خلال توفير بيئة مناسبة لتكاثر بعوض "الأيديس"؟ كما كشفت دراسة أجرتها جامعة "إكسيتر" ومختبر "بليموث" البحري عن وجود روابط متعددة بين البلاستيك ومقاومة المضادات الحيوية. وتبين أن تسربات النفط الخام -المادة الأساسية لصنع كثير من أنواع البلاستيك- تُساعد البكتيريا على تطوير مقاومة للمضادات، وهي عملية تتعزز بفعل بعض الإضافات الكيميائية في البلاستيك، مثل البيسفينولات (ثنائي الفينول، إضافة مترجم) والفثالات.
صعوبة التخلص من البلاستيك
ومع معرفة كل هذا، بدأ بعض الناس في محاولات فردية لتقليل تعرضهم للبلاستيك. الممثل أورلاندو بلوم، مثلاً، أنفق 13 ألف دولار على علاج تجريبي لتنقية الدم. لكن الواقع أن هذه المحاولات غير مجدية.
هذا الصباح، خرجتُ للركض، وكل ما كنت أرتديه -من حمالة الصدر الرياضية إلى الحذاء- كان مصنوعاً من مزيج من البوليستر والنايلون. بعد ذلك استخدمت معجون أسنان معبأ في أنبوب بلاستيكي من البولي إيثيلين. ثم ركبت دراجتي الهوائية إلى العمل، مستنشقة ميكروبلاستيكات ناتجة عن تآكل الإطارات والطرقات. عندما أشتري الغداء، سيكون بالتأكيد معبأ في عبوة بلاستيكية للاستخدام الواحد. وحتى كيس شاي ما بعد الظهيرة غالباً ما يحتوي على البلاستيك. هذه مجرد أمثلة بسيطة من كم البلاستيك الذي أتعرض له يومياً.
وفي الوقت الراهن، تجتمع الدول في جنيف بسويسرا، لمحاولة التوصل إلى معاهدة عالمية للحد من التلوث الناتج عن البلاستيك، بعد فشل المحادثات التي عُقدت في بوسان بكوريا الجنوبية العام الماضي. من الضروري أن تخرج هذه الاجتماعات بالتزامات قانونية واضحة ومُلزمة لمعالجة الأزمة.
لكن البداية لا تبعث على التفاؤل إذ إنه خلال اجتماعات بوسان، انقسمت الدول إلى فريقين، الأول يضم دولاً ذات طموح مرتفع تسعى إلى التخلص التدريجي من المواد والبلاستيك الضار، والثاني يضم دولاً منتجة للنفط مثل روسيا والسعودية، ويدعو إلى التركيز على إدارة النفايات وإعادة التدوير. وصل الخلاف إلى حد أن الوفود لم تتمكن حتى من الاتفاق على آلية التصويت.
تقنين المواد الخطرة
ينبغي أن تضع المعاهدة القوية سقفاً لإنتاج البلاستيك، وتُقنّن المواد الكيميائية الخطرة فيه، وتُلزم بالتخلص التدريجي من المنتجات البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد، إلى جانب تحسين إدارة النفايات وتعزيز قدرات التدوير. كما يجب أن تعترف بجميع الأضرار الصحية الناجمة عن إنتاج البلاستيك واستخدامه والتخلص منه.
لم يعد التلوث البلاستيكي تهديداً يقتصر على السلاحف البحرية، بل أصبح خطراً داهماً ومباشراً على صحة الإنسان.
تدير قنوات التواصل الاجتماعي الخاصة بـ Bloomberg Opinion.