التصعيد بين أمريكا والهند.. من الرسوم إلى تحالفات مع الخصوم
شهدت العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والهند تصعيداً كبيراً بعد أن قرر الرئيس الأمريكي دونالد ترمب رفع الرسوم الجمركية على البضائع الهندية إلى 50%، متجاوزاً بذلك المعدلات المفروضة على شركاء تجاريين آخرين مثل كوريا الجنوبية والاتحاد الأوروبي واليابان.
يمثل هذا التصعيد تحولاً لافتاً في العلاقة الودية التي كانت تربط ترمب ورئيس وزراء الهند ناريندرا مودي، والتي كان العالم يظن بسببها أن نيودلهي ستحصل على أول أو ثاني صفقة تجارية بالكثير وسط إطلاق العديد من التصريحات الدافئة من الطرفين.
في التقرير التالي نحاول استعراض الأسباب المحتملة وراء تصاعد الخلافات بين أكبر اقتصاد في العالم والخامس من حيث الحجم، وتأثير ذلك على الاقتصادين الهندي والأمريكي، والمحاولات التي تبذلها نيودلهي لمعالجة الموقف.
شرارة الخلاف التجاري
ساهمت عدة عوامل تشمل سوء التقدير السياسي والفشل في قراءة الإشارات والتوترات المتراكمة بين الهند والولايات المتحدة في انهيار اتفاق تجاري بين أكبر وخامس أكبر اقتصاد في العالم، رغم التقدم الكبير في المفاوضات، حسبما نقلت "رويترز" عن مسؤولين من الجانبين الهندي والأمريكي في يونيو الماضي.
فبعد خمس جولات من المفاوضات التجارية، كان المسؤولون الهنود واثقين جداً من إبرام اتفاقية مُرضية مع الولايات المتحدة. مع ذلك، فرض ترمب رسوماً جمركية مرتفعة للغاية (50%) على البضائع الهندية، بسبب استمرارها في شراء الطاقة الروسية، حيث تحصل الهند على نحو 37% من وارداتها النفطية من روسيا. وتُباع تلك الشحنات بخصم عن أسعار السوق.
من جانبه، صرح مودي بأن بلاده تُستهدف بشكل غير عادل من قبل الولايات المتحدة، مدافعاً عن استهلاك النفط الروسي باعتباره "ضرورياً" لدعم الاقتصاد الهندي.
الهند وفخ الثقة الزائدة
كانت الهند تعتقد أنها قدمت تنازلات كبيرة بالفعل بعد زيارات وزيري التجارة ونائب الرئيس الأمريكي، مثل إلغاء الرسوم على 40% من الصادرات الأمريكية الصناعية وخفض تدريجي للرسوم على السيارات والكحول.
كما وافق مودي على مضاعفة التجارة الثنائية إلى 500 مليار دولار بحلول 2030، مع التزام بشراء طاقة ودفاع أمريكية بقيمة 25 مليار دولار.
لكن على ما يبدو فقد بالغت الهند في الثقة بعد تصريحات ترمب عن اتفاق وشيك، مما أدى إلى تشددها خصوصاً في ملفي الزراعة ومنتجات الألبان.
قال مصدر مقيم في واشنطن مطلع على المحادثات: "كان ترمب يريد إعلاناً ضخماً يجذب الانتباه مع توسعة الوصول إلى السوق، واستثمارات، ومشتريات كبيرة". واعترف مسؤول هندي بأن نيودلهي لم تكن مستعدة لمضاهاة ما قدمه الآخرون، وفق "رويترز".
فيما صرح مارك لينسكوت، الممثل التجاري الأمريكي السابق "في مرحلة ما، كان الجانبان قريبين جداً من توقيع الاتفاق" وأضاف: "العنصر المفقود كان وجود خط اتصال مباشر بين الرئيس ترمب ورئيس الوزراء مودي".
نيران صديقة بين ترمب ومودي
اتهم ترمب حكومة مودي برفض تسهيل وصول السلع الأمريكية إلى السوق الهندية، وانتقد انضمام الهند إلى مجموعة "بريكس" للاقتصادات النامية. وكانت الهند مترددة في فتح أسواقها أمام المنتجات الزراعية الأمريكية على وجه الخصوص، بهدف حماية قطاعي الزراعة والألبان.
من جانبه، قال مودي في أول تصريح بعد فرض الرسوم "إنه لن يساوم على مصالح مزارعي البلاد حتى لو اضطر لدفع ثمن باهظ. وبالنسبة لنا، رفاهية مزارعينا هي الأسمى"، وفق صحيفة " إيكونوميك تايمز أوف إنديا".
وأضاف رداً على قائمة رغبات ترمب: "الهند لن تساوم أبداً على صحة مزارعيها وقطاع الألبان وصيادي الأسماك. وأعلم شخصياً أنني سأدفع ثمناً باهظاً بسبب ذلك".
كما كثف ترمب هجماته ضد الهند في الأيام الأخيرة، واصفاً اقتصادها بـ"الميت"، وحواجزها الجمركية بـ"البغيضة"، وشعبها بأنه غير مبالٍ بمعاناة الأوكرانيين. وفي منشور على منصة "إكس" كتب ترمب بوضوح: "لا أهتم بما تفعله الهند مع روسيا... يمكنهما هدم اقتصادهما المتهالك معاً".
دانيال لام، رئيس قسم استراتيجيات الأسهم في "ستاندرد تشارترد ويلث سوليوشن"، قال خلال مشاركته في موضوع حلقة "تقرير آسيا" على قناة "الشرق" مؤخراً ، إن ترمب يهدف من خلال قراره هذا إبعاد الهند عن روسيا أو أي تحالفات يعتبرها معادية مثل مجموعة دول "بريكس"، لكنه يرى أن من الصعب على الهند التخلي عن السلع الروسية أو اتباع نهج يخالف سياستها الوسطية التي لطالما تبنتها.
تقارب مع خصوم واشنطن
يُعتبر التقارب الهندي الروسي الصيني أكبر خطر يواجه الولايات المتحدة حالياً في ظل الحرب التجارية، حيث أصبحت الهند وروسيا أكثر قرباً من موسكو بسبب سياسات ترمب التجارية، ويعتزم مودي القيام بزيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ نهاية أغسطس الجاري.
كما وجه مودي دعوة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لزيارة بلاده لحضور القمة السنوية الهندية- الروسية في وقت لاحق من العام الجاري في الهند.
وفي أعقاب إعلان الرسوم الأمريكية، وقّعت الهند اتفاقات مع روسيا لتعزيز التعاون في مجالات علوم وتكنولوجيا الفضاء، والمعادن النادرة، والألمنيوم، والأسمدة، والنقل بالسكك الحديدية، وغيرها من القطاعات. وفي اليوم التالي، التقى مستشار الأمن القومي الهندي أجيت دوفال مع بوتين على هامش اجتماع مستشاري الأمن القومي لدول "بريكس" في مدينة سان بطرسبورغ.
وإلى جانب هذا المثلث، تحدث مودي كذلك مع الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا -الذي وقع ترمب أمراً تنفيذياً بفرض 50% رسوم على بلاده- لبحث فرض التعريفات الجمركية الأحادية ضد بلديهما، وجدد خطط تعزيز العلاقات التجارية.
على الجانب الآخر، علقت الحكومة الهندية خططاً لشراء أسلحة وطائرات أمريكية جديدة وفقاً لثلاثة مسؤولين تحدثوا إلى "رويترز". وأفاد مسؤولان بأن الهند كانت تعتزم إرسال وزير الدفاع راجنات سينغ إلى واشنطن في الأسابيع المقبلة للاتفاق على عقود أسلحة، ولكن الرحلة أُلغيت.
"رويترز" نقلت عن أحد المسؤولين قوله إنه من الممكن المضي في المشتريات الدفاعية بمجرد أن تتضح الرؤية بشأن الرسوم الجمركية واتجاه العلاقات الثنائية، لكن "ليس بالسرعة التي كان من المتوقع أن تكون عليها".
ضربة أمريكية للاقتصاد الهندي
رسوم ترمب على صادرات الهند البالغة 50% ستلحق ضرراً أكبر باقتصاد البلاد الذي يعاني أصلاً من تباطؤ، كما قد تؤدي إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي بما يصل إلى نقطة مئوية واحدة، وفق تقديرات محللين. ومن شأنها أن تجعل صادرات العديد من الصناعات إلى الولايات المتحدة غير قادرة على المنافسة.
تفيد تقديرات "بلومبرغ إيكونوميكس" بأن الرسوم التراكمية، التي باتت أعلى ليس فقط من تلك المفروضة على منافسي الهند في التصدير مثل فيتنام، بل أيضاً من تلك المفروضة على الصين، يمكن أن تخفض الصادرات إلى الولايات المتحدة بنسبة تصل إلى 60%، مما قد يؤدي إلى تراجع الناتج المحلي الإجمالي بما يقرب من نقطة مئوية.
يقدّر البنك المركزي الهندي نمو الاقتصاد بنسبة 6.5% في السنة المالية 2026، وهي نفس النسبة المسجلة في العام السابق، وأقل بكثير من متوسط النمو البالغ 8% الذي كان يُسجل في السنوات التي سبقت ذلك.
كتب المحللان تشيتنا كومار وآدم فارار أن "الأثر الكلي على الناتج المحلي الإجمالي قد يكون أعلى ليصل إلى 1.1% على المدى المتوسط"، بمجرد الإعلان عن الرسوم على قطاعات مثل الأدوية والإلكترونيات.
ويُذكر أن الولايات المتحدة هي أكبر شريك تجاري للهند، وبلغ حجم التبادل التجاري الثنائي بينهما 129 مليار دولار في عام 2024، بفائض قدره 45.7 مليار دولار لصالح الهند، وفقاً لبيانات التجارة الحكومية الأمريكية.
رحلة البحث عن بدائل
قال دامو رافي، أمين العلاقات الاقتصادية في وزارة الخارجية الهندية، إن بلاده ستبحث عن فرص بديلة في حال أصبحت الولايات المتحدة "بيئة تصدير صعبة"، مشيراً إلى جنوب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية كأسواق محتملة. أضاف: "من الطبيعي جداً أن تبحث الدول عن بدائل عندما تواجه حواجز جمركية مرتفعة في أي منطقة من العالم".
كما يتوقع المحللون أن تقدم الحكومة والبنك المركزي الهندي دعماً سياسياً لتحفيز النمو. وتغطي الرسوم الجديدة ثلثي صادرات الهند إلى الولايات المتحدة، والتي تبلغ قيمتها 58 مليار دولار، وفقاً لتقديرات "مورغان ستانلي".
وتوقع مصرف الاستثمار العالمي أن يخفض المركزي الهندي أسعار الفائدة مرتين على التوالي بمقدار ربع نقطة مئوية لكل منهما، كما أن الحكومة الاتحادية من المرجح أن توقف سياسة ضبط أوضاع المالية العامة مؤقتاً، وقد تزيد من الإنفاق الرأسمالي لدعم الطلب المحلي.
كما يفكر مسؤولو نيودلهي في تقديم تنازلات تجارية للولايات المتحدة. تعتبر الهند المهلة البالغة 21 يوماً قبل تنفيذ الرسوم فرصة للحفاظ على قنوات التفاوض مفتوحة، ولا تخطط لاتخاذ رد انتقامي حالياً. تضع الهند على رأس أولوياتها التوصل إلى اتفاق تجاري ثنائي، وتقيّم إمكانية تقديم تنازلات خاصة في قطاعات الزراعة ومنتجات الألبان لتلبية المطالب الأمريكية مع تقليل الأثر على المنتجين المحليين، "وفق بلومبرع".