من "تسلا" إلى "مايكروسوفت".. عودة الشركات إلى التكامل الرأسي
مفاهيم التعهيد والاعتماد على سلاسل توريد وتوزيع مراكز التصنيع تنحسر لتعود فكرة المؤسسة المتكاملة التي تتولى جميع مراحل الإنتاج
التالي:نايكي وأديداس تطالبان ترمب بإعفاء الأحذية من الرسوم الجمركية
- في الماضي كان مصنع روكفلر لإنتاج البراميل يعتمد على أخشاب من غابة مملوكة له وكانت سيارات فورد تنتج بالكامل في مكان واحد
- نتجه لانتهاء حقبة شهدت تجميع أحذية نايكي من مصانع موزعة في عدة بلدان نامية
- "بي واي دي" الصينية تمتلك حالياً مناجم لإنتاج الليثيوم اللازم لصناعة البطاريات وسفناً لشحن سياراتها الكهربائية
يمكن تلخيص جانب كبير من تاريخ الشركات الحديثة في شعارين شهيرين: شعار "فورد" القائل "من المنجم إلى السيارة الجاهزة: تحت مظلة شركة واحدة"، وشعار "أبل" القائل "صُمّم في كاليفورنيا، وجُمع في الصين". ويبدو أن مستقبل هذا التاريخ في السنوات المقبلة سيتحدد من خلال تراجع الشعار الثاني وعودة بروز الأول مجدداً.
في القرن الذي أعقب عام 1870، تشكلت الشركات وفق نموذج التكامل الرأسي، أي الرغبة في جمع أكبر قدر ممكن من عمليات الإنتاج تحت مظلة واحدة. على سبيل المثال، لم يكن جون د. روكفلر يملك مصنعاً لصناعة البراميل فحسب (وقد وفر له ذلك في عام 1888 نحو 1.25 دولار لكل برميل في وقت كان يستهلك فيه 3.5 ملايين برميل سنوياً)، بل كان يملك أيضاً الغابة التي تزوده بالخشب. ومصنع "فورد" الضخم في ريفر روج بمدينة ديربورن في ولاية ميشيغان كان مصمماً بحيث تدخل المواد الخام من جهة وتخرج من الجهة الأخرى سيارات "موديل تي". بل إن "فورد" أنشأ بلدة في البرازيل، أطلق عليها -يالتواضع- اسم "فوردلانديا" (Fordlandia)، لضمان مصدر موثوق للمطاط اللازم لإطارات السيارات.
"أبل" و"نايكي" مقابل "بي واي دي"
هذا التوجه بدأ يتغير في سبعينيات القرن الماضي، مع بروز ما يُعرف بـ"ثقافة التركيز" و"الكفاءات الأساسية". استلهمت "أبل" نموذجها التجاري من شركة "نايكي"، التي كانت تصمم أحذيتها في ولاية أوريغون، بينما تعهد بإنتاجها إلى عمال يعملون بأجر زهيد في دول نامية. تغنّى خبراء الإدارة حينها بـ"الشركات الافتراضية" التي لا تملك شيئاً وتعتمد بالكامل على متعاقدين خارجيين.
والآن بدأت البوصلة تتجه مجدداً نحو التكامل الرأسي. كما كانت "نايكي" الشركة النموذجية في ثمانينيات القرن الماضي، باتت شركة "بي واي دي" الصينية -وهي شركة تصنيع بطاريات تملك حالياً مناجم ليثيوم وسفن شحن وتنتج سيارات كهربائية- تشكل النموذج الجديد للمرحلة المقبلة.
السبب الجلي وراء هذا التحول هو الاضطرابات السياسية. إذ تُظهر بيانات "مؤشر عدم اليقين العالمي" أن مستوى حالة عدم اليقين الأساسي قد تضاعف أكثر من مرتين منذ 1990، كما باتت الأحداث المصنفة عند مستوى "عدم يقين مرتفع" أكثر حدوثاً، وبلغت "قفزات عدم اليقين" مستويات أعلى. يشير تارون خانا، الأستاذ في كلية هارفارد للأعمال، إلى أن زيادة السيطرة على سلاسل التوريد هي في الأغلب استجابة طبيعية لحالة عدم اليقين.
نظام التعهيد والعولمة
ازدهر نظام التعاقد الخارجي خلال حقبة العولمة، التي شهدت خفضاً للرسوم الجمركية ووضع قواعد يمكن التنبؤ بها. دمر دونالد ترمب ذلك النظام لا من خلال رفع الرسوم الجمركية في الولايات المتحدة الأميركية إلى أعلى مستوياتها منذ قرن فحسب، بل واستخدامها أيضاً كورقة مساومة. وبالتالي، أصبح من المنطقي إعادة توطين أنشطة الأعمال وإعادتها تحت مظلة الشركات نفسها.
كما أن عودة السياسات الصناعية من خلال تقديم الدعم الحكومي، والحوافز الضريبية، ومتطلبات قواعد المنشأ تسهم بدورها في تعزيز التكامل الرأسي. وفقاً لشركة "ماكنزي أند كو" (McKinsey & Co)، ارتفع زاد الرقم السنوي لحوافز الشركات الجديدة بنسبة 465% الاتحاد الأوروبي و518% في الولايات المتحدة، و84% في الصين، خلال الفترة من 2017 إلى 2023. وغالباً ما يشجع تدخل الحكومات الشركات على التوسع، رأسياً وأفقياً، إذ يصبح مفتاح النجاح هو علاقاتها مع الوزراء لا القيمة الاقتصادية، وهو ما يفسر ظهور تكتلات ضخمة في أمريكا اللاتينية.
لكن هناك أيضاً عامل آخر هو صعود مجموعة من "الشركات الخارقة" التي تجمع بين النجاح والقلق الدائم بنسب متساوية. وتبرز هذه الشركات بشكل خاص في قطاع التكنولوجيا، إذ تمثل شركات "العظماء السبعة" نحو 35% من القيمة السوقية لمؤشر "ستاندرد آند بورز 500". هذا النجاح يمنحها القدرة على شراء كل ما ترغب فيه تقريباً، أما القلق فيدفعها دوماً للبحث عن التهديد الكبير التالي.
بدأت هذه الشركات في اعتماد التكامل الرأسي قبل أن يقلب ترمب العولمة رأساً على عقب. يمكن القول إن "مايكروسوفت" و"تسلا" كانتا في طليعة هذا التوجه، إذ وسّعت "مايكروسوفت" أعمالها من الحوسبة المكتبية "نزولاً" إلى الخوادم والطاقة المتجددة اللازمة لتغذية تلك الخوادم، و"صعوداً" إلى قطاع الألعاب، في حين جمعت "تسلا" بين البرمجيات والأجهزة. وانتقلت شركة "أمازون" إلى قطاع الخوادم لضمان تأمين سلاسل الإمداد (وأسست بذلك نشاطاً مزدهراً لبيع السعة الفائضة لديها)، بينما دخلت شركة "جوجل" مجال تصنيع الرقائق للغرض نفسه. وباتت شركات التكنولوجيا تدفع بالتكامل الرأسي إلى ما يشبه "فوردلانديا"، إذ يسعى إيلون ماسك إلى إنشاء بلدة جديدة تُدعى "ستاربيس" (Starbase) في جنوب ولاية تكساس لإيواء موظفي شركته الفضائية، كما تقود "جوجل" و"ميتا" جهود بناء مشاريع جديدة في شمال ولاية كاليفورنيا رغم نزعة "ليس في فنائي الخلفي" (Not In My Back Yard) الرافضة لمشاريع التوسع العمراني.
سياسة التكامل الرأسي
التكامل الرأسي يدفع العالم في اتجاهات متناقضة، إذ من المفترض أن يؤدي القضاء على العولمة إلى زيادة قوة العمال الذين فقدوا نفوذهم بسببها، لكن تمركز الأعمال داخل شركة واحدة سيزيد من نفوذ الرؤساء التنفيذيين. لكن، بعض التبعات تبدو شبه مؤكدة.
من شأن التكامل الرأسي أن يعزز اتجاه تمركز الأنشطة. من المنتظر أن تنتج "نتفليكس" قدراً أكبر من المحتوى الذي تقوم بنشره بنفسها. وستزداد العلاقات تشابكاً بين الشركات الكبرى والحكومات، مع اعتمادها بشكل متزايد على العقود الحكومية والتصاريح اللازمة للتشغيل. كما سنشهد تطبيق التكامل الرأسي على مستوى الدول، حيث تتزاحم الحكومات للحصول على إمدادات المواد الخام. وقد وقع ترمب بالفعل اتفاقاً مع فولوديمير زيلينسكي لتأمين المعادن والموارد الطبيعية الأوكرانية مقابل الأسلحة الأمريكية (وهدد بالطبق بضم جزيرة غرينلاند)، بينما ضمنت الصين السيطرة على إمدادات العناصر الأرضية النادرة في أنحاء أفريقيا.
يحذر ميكيلي زانيني، الذي شارك مع غاري هامل في تأليف كتاب "نظام إنساني لا بيروقراطي" (Humanocracy)، من أن التكامل الرأسي قد يُبطئ وتيرة الابتكار، إذ تركز الشركات الكبرى على تعظيم العائد من منتجاتها الحالية. على سبيل المثال، توجه الصيدليات نحو تقديم خدمات التأمين الصحي أو شراء عيادات الأطباء لا يُبشر بالخير. وأصدرت وزارة الدفاع الأميركية تقريراً حول الابتكار في 2022 قراءته تثير القلق، إذ شهدت التسعينيات من القرن الماضي موجة من الاندماج بين الشركات خفضت عدد المتعاقدين من 51 إلى 5 فحسب، ثم انتقل "الخمسة الكبار" للتركيز على التكامل الرأسي من خلال الاستحواذ على موردين من المستويين الثاني والثالث. يحذر التقرير من أن تلك الاندماجات، التي تسمح للشركات الكبرى بخنق تدفق المنتجات والأفكار الجديدة، يُفسر جزئياً سبب تخلف الولايات المتحدة الأمريكية عن الصين في إنتاج الصواريخ الفرط صوتية.
صفقات الاندماج
أفضل طريقة لفهم العصر المقبل ربما تكون بالعودة إلى مطلع القرن العشرين، حين شهدت الولايات المتحدة ما يُعرف بـ"حركة الاندماج الكبرى" بين عامي 1897 و1903، والتي أسفرت عن ظهور الشركات العملاقة التي تسيطر على قطاعات واسعة من الاقتصاد، مثل شركة "جنرال إلكتريك" التي استحوذت على 90% من السوق، و"أميركان توباكو" (American Tobacco) التي استحوذت هي الأخرى على 90% أيضاً من السوق، بجانب شركة "يونايتد ستيتس ستيل" التي سيطرت على 50% من خام الحديد في البلاد.
كان النظام الرأسمالي الناتج عن ذلك أكثر ترتيباً بكثير مقارنة مع حالة الفوضى التي سبقته. لكنه حمل معه مشكلات خطيرة. اعتمدت الشركات العملاقة بشكل متزايد على قوتها السوقية بدلاً من الابتكار: فمثلاً، أدى تأسيس "يونايتد ستيتس ستيل" إلى إنهاء فترة طويلة من تراجع الأسعار في قطاع الصلب. هاجم أصحاب الفكر التقدمي تلك الوحوش متعددة الأذرع التي تتحكم في الحياة الاقتصادية، فيما دعا مؤيدو الفكر القومي إلى التوسع لبناء شركات إمبراطورية لضمان حصول الاقتصاد الأمريكي على الموارد التي يحتاجها. وفي حين كان تبني الاقتصاد العالمي لنموذج "نايكي" مثاراً للنقد الشديد في الثمانينيات من القرن الماضي، فإننا حالياً على وشك اكتشاف أن التكامل الرأسي لا يخلو هو الآخر من تكاليف باهظة.
كاتب رأي بلومبرغ ـ عمود الأعمال العالمية