استلهام تجربة محكمة TCC البريطانية في نزاعات المقاولات والتكنولوجيا

حين ننظر إلى جذور القضاء التجاري والتنظيم المؤسسي في التاريخ، نجد أن نظام الحسبة الإسلامي كان أول من جمع بين رقابة الأسواق، وتدوين الأعراف التجارية، وتسوية النزاعات بسرعة ومرونة، وهو ما شكّل مصدر إلهام مباشر لنشأة محاكم التجار في شمال إيطاليا في القرن الـ9 الميلادي، التي بدورها أرست أول لبنات القضاء التجاري الأوروبي. ثم مع تطور الدولة الحديثة، أنشأت فرنسا في عام 1563م أول محكمة تجارية دائمة في باريس بأمر ملكي، لتتوسع الفكرة وتشمل كافة المدن الفرنسية، وتصبح نموذجًا للقضاء المتخصص.

لكن التحدي الحقيقي ظهر في بريطانيا في منتصف القرن الـ19، حيث شهدت البلاد ثورة صناعية وهندسية هائلة أدت إلى نشوء نزاعات معقدة في مجالات البناء والأشغال العامة، وكان من الواضح أن النظام القضائي القائم، خاصة المحاكم التي تعتمد على المحلفين، لم يكن مجهزًا للتعامل مع هذه النزاعات الفنية الدقيقة، إذ كانت بطيئة ومكلفة وتعتمد على إجراءات معقدة لا تتناسب مع طبيعة المقاولات.

ولم تكن هذه مجرد مشكلة إدارية، بل مشكلة تعطيل حقيقي للمشاريع وتأخر في صرف المستحقات، ما قد يتسبب في شلل كامل للموقع وخسائر كبيرة.

ورغم أن القانون العام الإنجليزي (Common law) متطور، إلا أنه لم يكن داعماً لقطاع المقاولات، إذ كان يعتمد على إجراءات قضائية بطيئة، وتبرز قضية "ماكينتوش ضد شركة السكك الحديدية الغربية العظمى" Macintosh v The Great Western Railway Company كمثال صارخ، حيث استمرت لأكثر من 25 عامًا بين عامي 1838 و1863، وهو ما شكّل صدمة قانونية دفعت اللجنة الملكية في عام 1867 للتوصية بإنشاء آلية جديدة للفصل في النزاعات الفنية، مستلهمة روح التحكيم، لكنها تقع ضمن منظومة القضاء الرسمي، من خلال تعيين "محكمين رسميين" (Official Referees) يبتّون في القضايا التي تتطلب فحصًا فنيًا أو محاسبيًا.

وتبلورت هذه التوصية في قانون القضاء لعام 1873م، الذي استحدث وظيفة المحكم الرسمي ضمن المحكمة العليا، ليُصبح بالإمكان إحالة النزاعات المتخصصة إليهم دون موافقة الأطراف. ومع مرور السنوات، تزايدت الإحالات إلى هؤلاء المحكمين، لا سيما في قضايا البناء، وبدأت تظهر ممارسات جديدة داخل المحكمة، مثل "جداول سكوت" (Scott Schedule) التي تنظم المطالبات الفنية، واستخدام خبراء مشتركين، وتطوير أدوات إجرائية أكثر مرونة واحترافية.

وفي التسعينيات، واجه قطاع البناء البريطاني أزمة ثقة حقيقية، فالعقود كانت عدائية، والمطالبات تتأخر، والتكاليف تتجاوز الميزانيات، والمشاريع تتعثر، ما دفع الحكومة البريطانية إلى تكليف السير مايكل لاثام بإعداد تقرير إصلاحي. وكان تقريره Constructing the Team الذي صدر عام 1994م نقطة تحول مفصلية، إذ دعا إلى إعادة صياغة ثقافة قطاع البناء بالكامل، من المواجهة إلى التعاون، ومن السرية إلى الشفافية، ومن النزاع إلى الحل.

ومن أبرز توصياته، والتي شكّلت نقطة انعطاف مهمة في تطوير آليات تسوية النزاعات، اقتراح إدخال نظام Adjudication أو ما يُعرف بـ "مقرر النزاع"، والذي يتيح لأي طرف في عقد البناء – لا سيما الطرف المتضرر – أن يعيّن مقرِّر نزاع فور نشوء الخلاف، دون الحاجة لموافقة الطرف الآخر، على أن يُصدر قراره خلال مدة قصيرة لا تتجاوز عادة 28 يومًا. وتكمن عبقرية هذا النظام في اعتماد مبدأ "Pay now, argue later"، أي أن المشروع لا يتوقف بسبب النزاع؛ بل يُنفذ القرار فورًا بشكل مؤقت، مع احتفاظ الطرف غير الراضي بحقه في التظلم لاحقًا إما بالتحكيم أو أمام المحكمة المختصة.

وتم إقرار هذا المبدأ رسميًا في قانون المنح السكنية والبناء والتجديد لعام 1996م (Housing Grants, Construction and Regeneration Act 1996)، ليشكّل نقطة تحول في فلسفة العقود البريطانية من المواجهة إلى الاستمرارية. وامتدت الفكرة لاحقًا إلى العقود الدولية مثل عقود FIDIC التي تبنّت تشكيل مجلس تفادي وتسوية النزاعات (Dispute Avoidance/Adjudication Board – DAAB)، الذي يرافق المشروع منذ بدايته، ويصدر قرارات ملزمة مؤقتًا عند الحاجة، بهدف تفادي التصعيد، وضمان استمرار العمل دون توقف.

وفي 1998، وكتتويج لهذه الجهود، أعيدت تسمية المحكمة رسميًا إلى محكمة التكنولوجيا والإنشاءات (Technology and Construction Court – TCC)، وبدأت مرحلة جديدة من التخصص، حيث توسعت اختصاصاتها لتشمل النزاعات التكنولوجية، والمسائل الهندسية المعقدة، والمطالبات البيئية، وقضايا تكنولوجيا المعلومات، والمسؤولية المهنية في قطاعات البناء والهندسة.

وضمن هذا التوسع، أصبحت المحكمة تختص أيضًا بالنظر في نزاعات التقنية المعقدة، بما في ذلك عقود تطوير البرمجيات، إخفاق مشاريع التحول الرقمي، ترخيص الأنظمة، مشاكل البنية التحتية لتقنية المعلومات، ونزاعات المشاريع التقنية الحكومية والخاصة. ويدخل في ذلك أيضاً العقود الفنية التي تتطلب تقييمًا دقيقًا لأداء البرمجيات، أو التزامات الشركات التقنية ضمن مشاريع البناء الذكي والمباني المتصلة، وهو ما يجعل المحكمة ذات أهمية متزايدة في ظل التداخل المتسارع بين التقنية والإنشاءات.

ومنذ 2004، أصبحت القضايا الكبرى تُنظر فقط من قِبل قضاة المحكمة العليا المتخصصين، ما عزز من جودة الأحكام وفهمهم العميق للتفاصيل الفنية الدقيقة. ورغم أن قضاة المحكمة جميعهم مؤهلون قانونيًا وليسوا مهندسين، إلا أنهم يمتلكون خبرات متراكمة في التعامل مع النزاعات الفنية، ويستعينون بالخبراء عند الحاجة، ما يمنح المحكمة قدرة استثنائية على موازنة البعد الفني مع المتطلبات القانونية. وخلال عام 2023-2024، ورغم انخفاض عدد الطلبات بنسبة 17.2% مقارنة بالعام السابق، ظل معدل التسوية يتجاوز 80%، في مؤشر على كفاءة النموذج واستقراره. بل امتدت تأثيرات المحكمة دوليًا، فاستلهمت منها محاكم متخصصة في دبي (DIFC Courts)، وسنغافورة (SICC)، وهونغ كونغ، وأستراليا، وألمانيا، وجعلت منها نموذجًا مرجعيًا عالميًا، لا سيما في العقود التي تُحيل النزاعات مباشرة إلى TCC مثل FIDIC وNEC وJCT.

وتُظهر هذه التجربة بوضوح أن قطاعي المقاولات والتقنية، بحكم تعقيدهما وتداخلهما، لا يمكن تنظيمهما بقضاء عام، بل يحتاجان إلى بيئة قضائية خاصة، تفهم طبيعة النزاعات الفنية، وتوفر آليات مرنة لحسمها دون تعطيل المشاريع، وتوازن بين سرعة التنفيذ وحق التقاضي.

وفي ظل ما تشهده السعودية من نمو متسارع في مشاريع البنية التحتية والتحول الرقمي ضمن رؤية 2030، تبرز الحاجة إلى تطوير نموذج قضائي متخصص، مستلهم من تجربة محكمة TCC، يعالج النزاعات في البناء والتقنية معًا، ويعزز مناخ الثقة في البيئة التعاقدية، ويوفر الحماية للمشاريع والمستثمرين دون المساس بمبدأ العدالة.

مستشار قانوني

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي