قبل أن تتوحش البطالة وتلتهم الاقتصاد الأمريكي

"الفيدرالي" مضطر لخفض الفائدة ليس خوفاً من الركود بل بسبب تراجع فرص التوظيف

مرت 3 سنوات على بدء المخاوف من أن تؤدي أسعار الفائدة المرتفعة إلى دخول الاقتصاد الأمريكي في ركود، وهو ما يبرر استمرار حالة الشك كلما صدرت بيانات اقتصادية ضعيفة تجدد هذه الهواجس. غير أن الأدلة المتراكمة حالياً تشير إلى أن المشهد هذه المرة مختلف كلياً. فالدعائم الاستثنائية التي حافظت على استقرار سوق العمل بعد الجائحة تلاشت إلى حد بعيد، ما يجعل الاقتصاد الآن أكثر عرضة لمخاطر الركود التقليدية إذا استمرت مؤشرات التباطؤ من هذه المرحلة فصاعداً.
ومن بين أكثر الاتجاهات إثارة للقلق في الآونة الأخيرة، يأتي الارتفاع المتسارع في أعداد المستفيدين من إعانات البطالة، الذي سجل خلال الشهرين الماضيين أعلى وتيرة له منذ بداية عام 2024. وقد أدى هذا التطور بالتوازي مع تباطؤ معدل التضخم الأساسي إلى دفع عدد من أعضاء لجنة السياسة النقدية في مجلس الاحتياطي الفيدرالي، إلى إعادة تقييم مدى سرعة استئناف تخفيف السياسة النقدية سعياً لدعم سوق العمل.

اتجاه نحو خفض أسعار الفائدة

في الأسبوع الماضي، حذر عضوان في مجلس الاحتياطي الفيدرالي، كريستوفر والروميشيل بومان، من تزايد المخاطر السلبية التي تهدد سوق العمل، حيث قد تستدعي خفضاً في أسعار الفائدة خلال اجتماع البنك المركزي المرتقب في يوليو.
ورغم أن رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول لم يؤيد هذا السيناريو بشكل مباشر في شهادته أمام الكونجرس يوم الثلاثاء، فإنه لم يستبعده، واعتبره من بين السيناريوهات المحتملة. في الوقت نفسه، تعكس توقعات الأسواق احتمالاً يبلغ نحو 20% لخفض أسعار الفائدة الشهر المقبل.
في ظل إبقاء باول على جميع السيناريوهات مطروحة، تكتسب تصريحات والر أهمية خاصة بالنظر إلى موقفه الصائب ضد مخاوف الركود في صيف عام 2022، حينما كان عدد الوظائف الشاغرة يقارب ضعف عدد العاطلين عن العمل مقارنة بما كان عليه قبل الجائحة، وهو ما وفر مساحة لتهدئة السوق دون ارتفاع كبير في البطالة. أما الآن، فقد عادت نسبة الوظائف الشاغرة إلى العاطلين إلى مستويات لم تُسجل منذ أواخر عام 2018.
وفي مقابلة مع شبكة "سي إن بي سي" الأسبوع الماضي، قال والر: إن مؤشرات مثل ارتفاع البطالة بين خريجي الجامعات "بدأت تشعرني بالقلق بعض الشيء". وأضاف: "أنا مؤيد تماماً لفكرة البدء في التفكير بخفض سعر الفائدة في الاجتماع المقبل، لأننا لا نريد أن ننتظر إلى أن تتدهور سوق العمل لنبدأ في التحرك".

الذكاء الاصطناعي يبدل قواعد التوظيف

منذ أواخر عام 2023، شهدت سوق العمل تباطؤاً ملحوظاً، ولا سيما بين فئة الشباب والعاملين ذوي الياقات البيضاء، نتيجة عودة الأمور إلى طبيعتها بعد موجة التوظيف المفرط التي صاحبت طفرة ما بعد الجائحة. وفي الآونة الأخيرة، بدأت الشركات تبحث عن وسائل تعتمد بشكل متزايد على تقنيات الذكاء الاصطناعي بدلاً من التوسع في التوظيف كوسيلة لتحفيز النمو.
ويبدو أن هناك قناعة تتنامى بين الشركات الكبيرة والصغيرة بأن الابتكار الحقيقي الذي يلفت انتباه المستثمرين حالياً يتمثل في استخدام الذكاء الاصطناعي، لتوسيع نطاق فرق العمل والشركات بأقل عدد ممكن من الموظفين.
ويبقى أن نرى مدى إمكانية تحقيق هذا النهج، إلا أن هذا التحول في التوجهات يشير إلى أننا على الأرجح لن نشهد طفرة في التوظيف لدى الشركات على المدى القريب، رغم ضخ مئات المليارات من الدولارات في مجال الذكاء الاصطناعي.
تجلى أحدث دليل على هذا الاتجاه في إعلان شركة "مايكروسوفت" عن نيتها تسريح 6000 موظف إضافي عقب جولة سابقة من تخفيض القوة العاملة بنفس العدد. ومن اللافت أن هذه الخطوة تتزامن مع تخطيط المسؤولين التنفيذين للسنة المالية الجديدة، التي تبدأ في الأول من يوليو. وكما أشرت سابقاً، هناك احتمال معقول أن يشهد موعد نهاية السنة المالية المعتادة في 31 ديسمبر موجات إضافية من تسريح العمالة مع شروع الشركات في مراجعة خططها السنوية الخاصة.
كما يشكل قطاعا الإسكان والحكومة مخاطر على التوظيف الآن بطريقة لم تكن قائمة بنفس الحدة قبل عام. فارتفاع المعروض من المنازل المعاد بيعها في مناطق الجنوب والغرب يؤدي إلى ضغوط هبوطية على وتيرة البناء وهوامش أرباح شركات التطوير العقاري، وغالباً ما يُعد هذا التراجع مقدمة لحالات تسريح للعمال.
أما على مستوى القطاع الحكومي، الذي كان محركاً أساسياً للتوظيف خلال عامي 2023 و2024، فقد توقفت وتيرة النمو منذ يناير، بفعل حملة الكفاءة التي تقودها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، إلى جانب ضغوط الميزانيات على مستوى الحكومات المحلية وحكومات الولايات.

الاحتياطي الفيدرالي في مأزق مزدوج

تشكل هذه المخاطر الناشئة في سوق العمل، وإن كانت غير حاسمة بعد، تحدياً أمام مجلس الاحتياطي الفيدرالي، الذي يواجه أيضاً مصادر متعددة من الغموض بشأن التضخم، بدءاً من الرسوم الجمركية، مروراً بتشريعات الضرائب التي يناقشها الكونجرس، وصولاً إلى النزاعات في مناطق إنتاج الطاقة.
لذا لم يكن مفاجئاً أن يُذكر باول أعضاء مجلس الشيوخ يوم الثلاثاء بضرورة توخي الحذر، في ظل استمرار معاناة المستهلكين من آثار التضخم الأخير. فقد قال: "لم نتمكن بعد من استعادة استقرار الأسعار، وإذا ما واجهنا صدمة تضخمية كبيرة ومستمرة، فعلينا أن نكون حذرين".
في نهاية المطاف، تبقى المخاطر المرتبطة بتراجع سوقي العمل والإسكان هي الأكثر ثباتاً على الأرجح. فقد أظهرت بيانات يوم الثلاثاء أن مؤشر الثقة الصادر عن مجلس المؤتمرات شهد تراجعاً مفاجئاً في يونيو، حيث هبطت نسبة المستهلكين الذين يرون أن الوظائف متوفرة إلى أدنى مستوى لها منذ أكثر من 4 سنوات.
وفي السياق ذاته، سجلت مؤشرات أسعار المنازل الصادرة عن "إس آند بي كورلوجيك كيس-شيلر" انخفاضاً للشهر الثاني على التوالي في أبريل، وذلك عبر 20 مدينة رئيسية شملها المؤشر مقارنة بالشهر السابق.
من المفهوم أن صُناع السياسة النقدية في مجلس الاحتياطي الفيدرالي يريدون مزيداً من الوقت لاستيعاب المخاطر التضخمية قصيرة الأجل، لكن لا يمكنهم السماح بتدهور أكبر في سوق العمل عما هو قائم حالياً.

خاص بـ "بلومبرغ"

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي