هل يكفي أن تقود السوق مستقبل الابتعاث؟

مع تسارع التحولات في الاقتصاد العالمي، أعادت عديد من الدول النظر في سياساتها التعليمية، خصوصًا ما يتعلق بتوجيه برامج الابتعاث. في هذا السياق، يبرز توجه متزايد نحو ربط مسارات الابتعاث بما يُعرف بـ "الاحتياج الفعلي في القطاع الخاص"، وهو توجه يستند إلى منطق عملي يسعى إلى تقليل الفجوة بين التعليم والتوظيف. غير أن هذا الربط، على وجاهته من حيث الكفاءة، يطرح تساؤلات إستراتيجية أعمق حول دور الدولة في توجيه المعرفة، وحول مدى نضج السوق ذاته في قيادة الأولويات المستقبلية.
بطبيعة الحال، يُعد القطاع الخاص شريكًا أساسيًا في النمو وتوليد الفرص، لكن أولوياته غالبًا ما تتركز على المدى القصير، وتُبنى على ديناميكيات السوق اللحظية. في المقابل، تضطلع الدولة بمسؤوليات أوسع وأطول مدى، تشمل بناء القدرات الوطنية، والاستثمار في الكفاءات التي لا تُقاس بعائد مباشر، وتهيئة الأرضية لقطاعات لم تنضج بعد، لكنها تحمل فرصًا تنموية طويلة الأجل.
أحد الإشكالات التي تبرز عند الاعتماد الكامل على السوق لتوجيه الابتعاث، هو أن بعض القطاعات الواعدة قد تكون ببساطة غير جاهزة بعد لاستيعاب الكفاءات التي تحتاجها الدولة. هذا لا يعني غياب الحاجة، بل غياب البيئة المؤسسية التي تُدرك هذه الحاجة أو تستطيع التعبير عنها. وبالتالي، فإن ترك الابتعاث لما "تطلبه السوق" فقط قد يؤدي إلى تعطيل مبكر لبناء منظومات مستقبلية، في الوقت الذي يُفترض أن يكون الابتعاث أداة استباقية لا استجابية.
تتجلى هذه الإشكالية بوضوح في قطاعات مثل الرياضة. فرغم ما أصبحت تمثله الرياضة من أهمية اقتصادية واجتماعية وثقافية، إلا أن ما تطلبه السوق فيها غالبًا ما ينحصر في وظائف تشغيلية مباشرة. في المقابل، فإن النهوض بهذا القطاع يتطلب بناء كفاءات في مجالات مثل السياسات الرياضية، الحوكمة، التشريعات الدولية، الاقتصاد الرياضي، وإدارة حقوق البث والرعاية، وهي مجالات لا تعبّر عنها السوق اليوم بالطلب، إما لغياب النضج المؤسسي أو لقصور التصور حول وظائف الرياضة في الاقتصاد والمجتمع.
هذه الفجوة بين ما تطلبه الأسواق وما تحتاجه الدولة لبناء المستقبل ليست حكرًا على قطاع الرياضة، بل تنطبق أيضًا على قطاعات مثل الثقافة، البحث العلمي، الذكاء الاصطناعي، الاقتصاد الإبداعي، والتخطيط الحضري. ما يجمع هذه القطاعات هو أنها تتطلب استثمارًا معرفيًا طويل الأمد، غالبًا ما يبدأ قبل أن تكون البنية السوقية جاهزة لاستيعابه. وهنا، يبرز دور الدولة في المبادأة، لا المتابعة.
تؤكد التجارب الدولية على أهمية هذا الدور الاستباقي للدولة. فسنغافورة، مثلًا، لم تنتظر السوق لتُحدد لها التخصصات التي تحتاجها، بل ابتعثت في مجالات لم تكن مطلوبة في حينها، لبناء منظومة إدارية ومعرفية تقود التنمية.
وفي الصين، تم الاستثمار في تخصصات ترتبط بإدارة الأحداث الكبرى والحوكمة الرياضية، كجزء من إستراتيجية طويلة المدى لبناء صورة دولية وإدارة فعالة للفعاليات. وفي دول مثل النرويج وفنلندا، دعمت الحكومات تخصصات معرفية وثقافية غير مدفوعة بالسوق، لكنها أساسية لبناء مجتمع متماسك وسيادة ثقافية قوية.
ما نحتاج إليه هو موازنة واعية بين متطلبات السوق ورؤية الدولة. المواءمة مطلوبة، لكن لا ينبغي أن تتحول إلى خضوع كامل للطلب الآني، خصوصًا حين يكون هذا السوق نفسه في طور التشكُّل. فالابتعاث ليس مجرد أداة لتلبية وظائف، بل وسيلة لإعادة هندسة ما يُطلب أصلًا، عبر تمكين الأفراد والمؤسسات من تجاوز الحاضر، نحو ما هو أكثر اتساعًا وتأثيرًا.
حين تُبنى سياسات الابتعاث فقط على ما تعبّر عنه السوق حاليًا، فإننا نخاطر بأن نُفوّت فرصًا إستراتيجية لا تظهر في مؤشرات التوظيف، لكنها حاسمة في بناء اقتصاد متنوع، ومجتمع معرفي، ودولة تقود التغيير بدل أن تُقاد به.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي