استعادة الريادة التكنولوجية الأوروبية
على مدى العقود القليلة الأخيرة، تحول الاتحاد الأوروبي من لاعب عالمي في مجال التكنولوجيا إلى مستهلك سلبي للتكنولوجيات المطورة في أماكن أخرى. فاليوم، 80% من التكنولوجيات والخدمات التي تحتاج إليها أوروبا لتحقيق التحول الرقمي تُـصَـمَّـم وتُـصَـنَّـع خارج حدودها، ومعظمها في الولايات المتحدة والصين. هذه العقلية الاستهلاكية شديدة العمق إلى الحد الذي جعلها تشكل حتى الفلسفة الكامنة وراء قوانيننا: كان الهدف من الضوابط التنظيمية التكنولوجية الأخيرة مثل: قانون الخدمات الرقمية وقانون الأسواق الرقمية حماية الأوروبيين كمستهلكين، من خلال الحفاظ على سلامتنا على الإنترنت وضمان المنافسة العادلة.
يُحسب لهذه القوانين أنها توفر سبل حماية قوية لمواطني الاتحاد الأوروبي، حتى إنها عملت عمل المخططات الأولية لسياسة المنافسة والسلامة على الإنترنت في مختلف أنحاء العالم. لقد أصبح التميز التنظيمي علامة تجارية أوروبية.
على الرغم من الصفقات التي أُعـلِن عنها أثناء قمة عمل الذكاء الاصطناعي في باريس في وقت سابق من هذا العام، انخفض إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر في أوروبا في 2024 إلى أدنى مستوى له منذ 9 سنوات، حيث شهدت فرنسا وألمانيا انخفاضا مضاعفا. ويصاحب هذا الانخفاض أرقاما أخرى مثيرة للقلق: فقد انخفضت حصة الاتحاد الأوروبي في سوق تكنولوجيا المعلومات والاتصالات العالمية من 21.8% في 2013 إلى 11.3% في 2022.
يجب على أوروبا أن تبذل من الجهد قدرا أكبر كثيرا من مجرد اللحاق بأمريكا والصين. ولكي تستعيد مكانتها في صناعة التكنولوجيا العالمية، فهي بحاجة ماسة إلى إعادة التفكير بصورة عاجلة في كامل نهجها في التعامل مع الاستقلالية، والتحالفات، والتنظيم، والقيادة.
هذا يستدعي الاستعانة بإستراتيجية مدروسة جيدا. فالهدف هو ضمان أمننا من خلال بناء قدراتنا الأساسية، وليس تحقيق الاكتفاء الذاتي التكنولوجي أو الاستقلالية الذاتية بمعزل عن الآخرين. من غير المنطقي الاستثمار بكثافة في تكنولوجيات يصعب توسيع نطاقها أو تصديرها. كانت الجهود الأخيرة لتطوير حوسبة سحابية محلية وبدائل لمحرك البحث جوجل مدفوعة في الأساس بالرغبة في الاستقلال التكنولوجي؛ لكنها لم تنجح على الرغم من الدعم السياسي القوي. وبالنظر إلى المستقبل، ينبغي إخضاع الجدوى التجارية لمثل هذه المشاريع لاختبارات الإجهاد قبل أن تستهلك قدرا أكبر مما ينبغي من الوقت أو الموارد.
بوسعنا أن نجد نماذج مماثلة للمسؤولية المشتركة في توفير الكابلات البحرية، والأقمار الصناعية المنخفضة المدار، وأشباه الموصلات، والطاقة، والاندماج النووي. لكن توسيع مثل هذه الشراكات يتطلب تكافؤ الفرص، بحيث يتسنى لجميع المشاركين استخدام اللبنات التكنولوجية المتاحة.
يتعين علينا نحن الأوروبيين أيضا أن نعترف بأوجه القصور لدينا. حذَّر كل من دراجي ورئيس الوزراء الإيطالي السابق إنريكو ليتا ــ مؤلف تقرير رئيسي حول تعزيز السوق الأوروبية الموحدة ــ من أن النهج الحالي المتبع في تطبيق القوانين الرقمية في الاتحاد الأوروبي يثقل كاهل صغار المبدعين. والاستعانة بمزيد من الوضوح والبساطة والقدرة على التنبؤ في إطارنا القانوني الذي يحكم التكنولوجيا من شأنه أن يعزز السوق الموحدة ويجذب المواهب والاستثمارات إلى أوروبا. ولا يتعلق الأمر بتخفيف قوانين الخصوصية أو حقوق النشر. بل يدور حول خلق بيئة تنظيمية تسمح بتمكين المشاركين في السوق وحمايتهم.
الصدد، من الممكن أن يضطلع تحالف من الشركات المتماثلة الفِـكر من مختلف أنحاء الاتحاد الأوروبي والبلدان الأخرى التي تشاركه قيمه بدور مهم في المناصرة. يتعين علينا أن نثبت أن الذكاء الاصطناعي التوليدي من الممكن أن يمثل فرصة كبرى، ولكن فقط إذا جرى نشره بطرق تحترم حقوق الإنسان والعمال. كما أننا بحاجة إلى إنشاء أطر تكنولوجية وقانونية تعزز المساواة والتعددية عبر لغاتنا العديدة.
هذه هي التحديات والفرص الكبرى أمامنا. ولتحقيق النجاح، يتعين على قادة الصناعة وصناع السياسات أن يتعاونوا بشكل وثيق مع المجتمع المدني، والجامعات، والنقابات العمالية. لم يفت الأوان بعد لاستعادة مكانة أوروبا كرائد عالمي في مجال التكنولوجيا والإبداع، ونحن نعرف كيف نفعل ذلك. الخطوة الأكثر أهمية هي تغيير العقلية.
خاص بـ "الاقتصادية"
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2025.