أزمات العالم تشتد .. الحلول تنحسر

تحدثنا في الأسبوع الماضي عن أن عالم اليوم تعصف به الأزمات من كل حدب وصوب، وأن بعضها من الشدة في مكان، ما قد يؤدي الى اختلال في الموازين التي اعتدنا عليها. والاختلال هنا لا أقصد به رجحان الكفة. هناك مؤشرات ودلائل قوية تشي بأننا مقبلون على ما قد يرقى إلى انقلاب وثوران، وربما شغب وغليان وفوران، لا تسعها كفات أي ميزان. في مقال الجمعة الماضية، يرد ذكر لأهم الأزمات التي يواجهها عالم اليوم. واستنادا إلى ما يرد في الغرب من توصيف، استخدمنا مصطلح "وجودي" existential، بمعنى أننا لم نعد أمام أزمات حلولها أو حلحلتها تحتاج إلى دبلوماسي مخضرم أو إطلاق حوار "حضاري" لوأدها. الأزمات أضحت وجودية لأننا لم نعد نمتلك المقدرة أو بالأحرى الحكمة التي تتكفل بتقديم حلول ناجعة لها. والأزمات أضحت وجودية، لأن الغرب "المتحضر" و"المتمدن" الذي يعول عليه العالم في حلحلة الأزمات بدأ يفقد المقدرة حتى على إيجاد سبيل لحلحلة الأزمات التي تنخر فيه في عقر داره. لا، بل هناك من الباحثين والمفكرين الغربيين من يعتقد أن الغرب هو أس الأزمات الوجودية التي تضرب العالم اليوم. لم يتخلص الغرب من إرث الاستعمار والفوقية والعنصرية في التعامل، رغم خروجه مضرجا بالدماء والعذاب واقتراف إبادات بشرية في حروب كان أكثرها إيلاما للبشرية مثل الحرب العالمية الثانية، أي قبل نحو 70 عاما ونيفا. في العقود السبعة منذ الحرب العالمية الثانية ووصمة العار التي جلبتها للبشرية باقترافها محرقة رهيبة، جرى حرق ملايين الناس فيها وهم أحياء، تغير وجه العالم، وأخذ ميزان القوة والصناعة والاختراع والمال والتكنولوجيا والعلم والنشر العلمي والفلسفة حصريا تقريبا في يد الدول الغربية. ما حدث من تطور ونمو في الـ70 عاما الماضية لم يقتصر على الماديات، بل تجاوز إلى الشؤون الإنسانية، حيث شهدنا فيها إصدار لوائح عالمية لحقوق الإنسان وتحقيق السلام ووسائل عملية لحلحلة الأزمات، كي لا تحدث محارق بشرية أخرى مثل التي وقعت في أوروبا في الأربعينيات من القرن الماضي. وصار هناك اعتداد بالنفس شديد، بعد أن عم الرخاء الشعوب الغربية، حيث لم يعد للفقر والأمية والظلم والاحتكار والابتزاز والتعدي على الآخر مكان في قاموسها، وأخذت شعوب العالم الأخرى ترى الغرب معيارا في الإنسانية والحكم الرشيد والعدالة في شتى الأوجه. ويشهد التاريخ أن تراكم الثروة والقوة، إن كان لدى فرد أو مجموعة أفراد أو دولة أو مجموعة دول، لا بد أن يتحكم فيهم الغرور والاعتداد بالنفس والتمسك بالفوقية، وتصغير شأن الآخرين نظرة وممارسة. ويندر ألا يلجأ القوي إلى استخدام شكل من أشكال قوته، إن كان ذلك عسكريا أو اقتصاديا: عسكريا يتمثل ذلك في شن حملات عسكرية لإخضاع الخصوم بالقوة، واقتصاديا يتمثل في فرض الحصار الاقتصادي لإنهاك الخصوم، كي يقبلوا ما تجلبه القوة من سطوة. ومن ميزات (اقرأ: سيئات) القوة والسلطة أنهما لا تحبذان إعمال العقل والمنطق، والأنكى أنهما لا تقبلان وجود منطق وعقل غير المنطق والعقل الذي يتحكم فيهما. وانظر تسلط وتحكم واحتكار المواقف من الأزمات، مثل الحرب المستعرة في أوكرانيا في أوروبا والحرب المدمرة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، حيث طوفان المواقف المزدوجة والنفاق في السياسة والمواقف الغربية. هذه واحدة من الأزمات الكبيرة التي يواجهها العالم، لأنها تقلب كل التشخيصات، التي اتفق عالم ما بعد الحرب العاليمة الثانية عليها لحل الأزمات، رأسا على عقب. نحن نشهد حاليا انهيار التفاهمات التي اتفق عليها عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، عالم المحارق والحروب الكونية. وها نحن شهود لعالم جديد في طور التشكيل، وكل تشكيل جديد لعالم جديد لا يأتي إلا على أنقاض مذابح ومحارق، والمواقف المزدوجة والمنافقة وفقدان العدالة. الخوف، وهو خوف كبير، يكمن في أن ما نملكه اليوم من أدوات لتحويلنا إلى أنقاض ومحارق متوافر وبكثرة وبقوة تدميرية، تبلغ أضعافا مضاعفة ما كان متاحا إبان الحرب العالمية الثانية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي