التستر التجاري .. مزيد من مكافحته وعقوباته

طوال عقود طويلة سبقت بدأ عمل البرنامج الوطني لمكافحة التستر التجاري، تمدد هذا الداء الفتاك في مختلف أنشطة الاقتصاد الوطني، ووصل إلى مستويات عالية جدا من الأخطار على الاستقرار الاقتصادي المحلي، ورغم الجهود التي سبقت البرنامج الوطني لمكافحة التستر التجاري خلال تلك العقود، إلا أنه سرعان ما أوجد المخارج الجديدة والمخالفة للأنظمة وإجراءات الرقابة خلال تلك الفترة، وخلال الفترة الراهنة التي اتسمت بقوة قبضة البرنامج الوطني لمكافحة التستر التجاري، كان متوقعا أن تتجدد محاولات المتورطين في هذه الآفة الاقتصادية للهروب كسابق العقود الماضية، إلا أن اتساع الخيارات أمام البرنامج الوطني وزيادة الممكنات هذه المرة، وفر للمرة الأولى من العمر الطويل للمواجهة مع التستر، قدرات تقنية منحت التفوق للبرنامج على حساب قوة الاحتيال على الأنظمة التي طالما لجأ إليها المتورطون في التستر التجاري أو التستر على العمالة الوافدة.
سابقا، حينما بدأ الحديث عن الدور المأمول من البرنامج الوطني لمكافحة التستر التجاري، تركز على أن بداية عمله ليست إلا بداية المواجهة مع "اقتصاد ظل" تجاوز حجم نشاطاته المخالفة مئات المليارات من الريالات، وأن الوصول إلى هدف القضاء عليه وانتزاع شأفته سيستغرق بالتأكيد أعواما طويلة، وأن كل هذا سيقتضي تطويرا مرحليا فترة بعد فترة من قبل الأجهزة الحكومية المشاركة في ذلك البرنامج الوطني، وهي السمة الأهم في البرنامج ليكون أكثر وأسرع ديناميكية من خصمه "التستر التجاري"، الذي طالما تجاوز كثيرا من جهود محاربته طوال العقود الماضية، لتفوقه في هذا الجانب تحديدا.
إن من أهم ما أسهم في زيادة كفاءة البرنامج الوطني، وسرع من قدراته ومرونته، ما أصبحت تتمتع به بلادنا بحمد الله من قدرات فائقة ولافتة على مستوى تطبيقات الحكومة الإلكترونية، التي أسهم اتساعها المتصاعد في تضييق الخناق بدرجة كبيرة على أغلب ممارسات وأساليب المتورطين في التستر التجاري، وشكل نقطة تحول محورية بالغة الأهمية في خضم المواجهة الطويلة مع هذا السم الاقتصادي القاتل لأي اقتصاد يتفشى في مختلف نشاطاته. أيضا، أسهمت الإصلاحات الواسعة التي شهدها الاقتصاد الوطني طوال المرحلة الماضية، بما تضمنته من إقرار وتحديث الأنظمة واللوائح التنفيذية المعمول بها في بلادنا، في منح مزيد من القوة والرقابة والصلاحيات اللازمة للبرنامج الوطني لمكافحة التستر التجاري، الذي قابله انحسار أكبر لخيارات المتورطين ومجالات التحايل والتجاوزات، والتأكيد أيضا على زيادة الوعي المجتمعي بالأخطار المحيقة بالتستر التجاري، وجسامة العقوبات والجزاءات المقررة على أي متورط في هذه الجريمة سواء كان مواطنا أو مقيما.
مع زيادة زخم النشاط الاقتصادي المحلي، وتأهبه لخوض مزيد من القفزات والتوسع، في الوقت ذاته الذي يشهد الاقتصاد العالمي خلاله أوضاعا غير مواتية، ما يعني انسدادا خارجيا كبدائل متاحة ومحتملة لأرباب التستر التجاري من الوافدين المتورطين، ودافعا أكبر للبقاء محليا والاستمرار في ممارسة المخالفات تحت مظلة التستر التجاري، ويزداد الدافع بدرجة أكبر مع الزيادة المرصودة للإنفاق الحكومي والقطاع الخاص، إضافة إلى الارتفاع المطرد للتدفقات الاستثمارية الأجنبية إلى الاقتصاد الوطني، التي تتجاوز في مجملها عدة تريليونات من الريالات، ويتوقع أن يتعاظم معها حجم الاقتصاد بأضعاف عدة خلال أقل من عقد زمني مقبل، كل هذا يعني بدوره زيادة أكبر في شهية المتورطين في التستر التجاري، وطمعا أكبر في اقتناص أكبر قدر ممكن من تلك الفوائض الاقتصادية المرتقبة بمئات المليارات من الريالات، ودافعا أكبر وراء بذل جهود ومحاولات أكبر، للاستحواذ على مزيد من النشاطات المحلية الأكثر استفادة من ذلك الزخم الاقتصادي الراهن والمرتقب، وللتأكد من مدى خطورة المتورطين في هذه الجريمة الاقتصادية، أنه يحدث رغم كل التسهيلات وعوامل الجذب الاستثنائية التي سخرتها المملكة أمام الاستثمار الأجنبي، ما يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن المتورطين في التستر التجاري لديهم أجنداتهم الإجرامية، التي تستهدف فعليا إلحاق الضرر بالاقتصاد الوطني وبمقدراته.
بناء على ما تقدم، يعد مبررا إلى حد بعيد جدا أن يقوم البرنامج الوطني لمكافحة التستر بزيادة تشديده على هذه الآفة الإجرامية، ويشدد أيضا العقوبات والجزاءات على المتورطين فيها، ويرافق تلك الجهود مزيد من الوعي المجتمعي بالأخطار العالية جدا لاستمرار التستر، وبفداحة العقوبات والجزاءات المرتبطة بأي نوع من ممارسات هذه الجريمة، وهو الدور المنوط بالبرنامج الوطني بالدرجة الأولى، والمنوط أيضا بجميع وسائل الإعلام المحلي والتواصل الاجتماعي، ذهابا إلى مستويات أعلى من التوعية والإيضاح بالأخطار الاقتصادية والمالية والاجتماعية، والعقوبات والجزاءات الصارمة التي سيتم إيقاعها على أي متورط فيها مهما كان، وأنها جريمة شأنها جرائم غسل الأموال والاختلاس والفساد الإداري والمالي، وهذا يتطلب تكثيفا للرسائل التوعوية من قبل الجميع عبر مختلف وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، وأن مكاسب الانتصار على التستر التجاري وما ينطوي تحت طاولته من مخالفات، ستمتد إيجابياتها وعوائدها المتحققة إلى جميع الأطراف من منشآت وأفراد، وهذا يقتضي بدوره من الجميع دون استثناء الإسهام بدرجة أكبر في إبلاغ البرنامج الوطني لمكافحة التستر التجاري، عن أي اشتباه لحالات تلك الآفة والجريمة المتمثلة في التستر التجاري، وذلك عبر القنوات الرسمية للبرنامج ووفق آلياته التنظيمية المعلنة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي