Author

الأسعار والتصدير .. هل تستمر الصدمة؟

|

تظهر بعض الدراسات التجريبية أن الاندماج في سلاسل القيمة الدولية يؤدي إلى انخفاض أسعار المنتجات الغذائية في جميع أنحاء العالم، وفي المتوسط تنخفض أسعار المواد الغذائية الحقيقية بنحو 2 في المائة عندما تزيد حصة إنتاج الغذاء المدمجة في سلاسل القيمة العالمية بنسبة 1 في المائة.

وتشمل سلاسل القيمة العالمية في قطاع الأغذية المنتجات التي تعبر حدودين على الأقل في طريقها من الحقل إلى طبق الطعام، والسبب في هذا التنقل هو الكفاءة وزيادة الدخل المتاح من خلال انخفاض الأسعار، حيث يتم تنفيذ كل مرحلة في سلسلة الإنتاج في الموقع الأكثر فاعلية من حيث التكلفة، فمثلا قد تتطلب تعبئة بعض المنتجات الغذائية عمالة كثيفة، ولهذا تبحث الأسواق عن دولة ذات أجور أقل لتنفيذ التعبئة بدلا من الدول التي يتم فيها حصادها أو بيعها، وتزداد أهمية البحث عن أفضل مسار في سلسلة القيمة الدولية الذي يحقق أعلى كفاءة وأقل سعر، خاصة إذا كان المستهلكون النهائيون من ذوي الدخل المنخفض الذين ينفقون حصة أكبر من دخلهم على الغذاء.
وهنا تظهر المكاسب الحقيقية من التجارة الدولية والآثار الاجتماعية المهمة للعولمة التي أسهمت في الماضي بشكل كبير في الحد من الجوع والفقر. لكن ليست هذه هي الصورة الكاملة للعولمة في سلسلة الغذاء العالمية التي تؤدي أحيانا إلى زيادة عدم استقرار الأسعار، وزيادة عدم اليقين، إذ تشير الدراسات إلى أنه في مقابل كل زيادة بنسبة 1 في المائة في القيمة المضافة من خلال سلاسل التوريد الدولية، تزيد تقلبات الأسعار السنوية بنحو 8 في المائة، ففي الأعوام الأخيرة، بدأت تظهر مشكلات سلاسل الإمداد العالمية، حتى أصبح نقص الإمدادات الغذائية منتشرا في كل مكان، وتظهر الأزمات الجيوسياسية تأثيرها الواسع في هذه السلاسل.

 ولا تزال الحرب الروسية الأوكرانية تلقي بظلالها على أسعار الغذاء نتيجة عدم اليقين، ولا تزال صور الرفوف الفارغة من زيت الطعام عالقة في الذهنية الأوروبية، كما عانت دول من شمال إفريقيا مشكلات استيراد القمح، هذا القلق أثر بشكل واضح في مسار العولمة، لأن الاعتماد الكامل على هذه السلاسل من الإمدادات الغذائية قد يعرض البلد لأزمات غير متوقعة، إذ بدأت كثير من دول العالم تعيد النظر في سياسيات التصدير، والبعض أعاد سياسات الدعم المحلي، وحالة حدوث نقص غير متوقع في الإنتاج أو الحصاد، يمكن تأمينه من خلال العرض المحلي، ما يؤدي بدوره إلى استقرار الأسعار، وقد ظهرت آثار هذه السياسات الجديدة في الأعوام القليلة الماضية، حيث اتجه المزارعون في جميع أنحاء العالم إلى زراعة مزيد من الحبوب والبذور الزيتية.

 وقال محللون وتجار- وفقا لتقرير نشرته "الاقتصادية": إن الأسعار العالمية للقمح والذرة وفول الصويا تتجه إلى تسجيل تراجع في 2023. لكن العلاقات الاقتصادية أعقد من هذا التصور، ففي دراسة نشرها البنك الدولي تؤكد أن استخدام الدول للتدخلات السياسية لتخفيف تأثير ارتفاع أسعار الغذاء يمكن أن يؤدي إلى تفاقم التغيرات في الأسعار الدولية، فخلال الارتفاع الحاد في أسعار المواد الغذائية في الفترة 2007-2008، اتخذ ما يقرب من ثلاثة أرباع اقتصادات الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية إجراءات سياسية لتخفيف أثر ذلك عن طريق خفض الحماية التجارية "التعريفات الجمركية عادة" على المواد الغذائية، في حين تفرض الدول المصدرة الصافية للأغذية قيودا أو حظرا على الصادرات، وهذه السياسات التي يتم تطبيقها خلال ارتفاع الأسعار تشجع الاستهلاك وتثبط الحوافز لزيادة الإنتاج، ويؤدي هذا بدوره إلى انخفاض المعروض من الصادرات، ما يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع الأسعار العالمية، وبذلك فإن الدول التي تعزل نفسها بدرجة أعلى من المتوسط هي وحدها القادرة على الحد من تقلبات الأسعار في أسواقها المحلية.

ليست القيود هي التي تسببت في احتمال بقاء أسعار الغذاء مرتفعة في المنظور القريب رغم انخفاضها في 2023، بل لأن مشكلة نقص الإنتاج قائمة حتى في الدول التي استطاعت دعم منتجاتها الزراعية نظرا إلى أن تداعيات ظاهرة إل نينيو على الإمدادات العالمية لم تحل، فلا تزال هناك توقعات بنقص الإمدادات في 2024. ووفقا لتقارير دولية، تسببت ظاهرة إل نينيو في حدوث جفاف في أجزاء كبيرة من آسيا هذا العام، في النصف الأول من 2024، إذ من المرجح أن تؤدي ظروف الزراعة الجافة وانخفاض حجم خزانات المياه إلى خفض الإنتاج.

وبالفعل، انخفضت إمدادات الأرز في العالم هذا العام بسبب تأثير ظاهرة إل نينيو في الإنتاج، ما دفع الهند، أكبر مصدر للأرز في العالم إلى فرض قيود على شحناتها، فارتفعت أسعار الأرز إلى أعلى مستوياتها في 15 عاما في 2023، وزادت الأسعار في بعض مراكز التصدير الآسيوية بنسبة راوحت بين 40 و45 في المائة، وهنا احتمالات أن يمتد التأثير إلى القمح، فالهند تبحث عن واردات، وللمرة الأولى في ستة أعوام تعاني أستراليا، ثاني أكبر مصدر للقمح في العالم، نقص إنتاج محصول هذا العام بعد أشهر من الحرارة الشديدة، ومن المرجح أن يحث ذلك المشترين -بما في ذلك الصين وإندونيسيا- على البحث عن كميات أكبر من القمح من مصدرين آخرين في أمريكا الشمالية وأوروبا ومنطقة البحر الأسود.

ليست هذه الأسباب فقط التي قد تقود إلى ارتفاع أسعار الغذاء، بل تنوع الاستخدامات، حيث تشير التقارير إلى أنه من المتوقع ارتفاع أسعار زيت الطهو نتيجة ارتفاع الطلب على إنتاج الوقود الحيوي القائم على زيت النخيل وزيت الطهي. إذن هناك قلق وعدم يقين شبه مستدام في إنتاج الغذاء العالمي، بسبب الاعتمادية الزائدة على سلاسل الإمداد التي قد تتعرض في أي لحظة إلى تعقيدات، وبسبب ظاهرة إل نينيو التي تحول أي دولة مصدرة للغذاء إلى مستوردة في أي وقت من العام، وقد تبدو قيود التصدير مفيدة لدولة ما لكنها قد تقود إلى مشكلة عالمية في جانب آخر.
والسؤال الأهم هنا هو حول معالجة هذه الصدمات والتقلبات المزمنة التي تعد طبيعية لأزمة إنتاج الغذاء، فهل هذه المعالجة شأن محلي "كل دولة تتخذ ما يناسبها من إجراء" أم هو شأن دولي يجب أن تتم القرارات في مكاتب الأمم المتحدة؟ فقد أثبتت التجارب أن بعض الدول منفردة قد تنجح في عزل أسواقها المحلية عن التقلبات قصيرة الأجل في أسعار الغذاء العالمية، لكن سياساتها مجتمعة قد تؤثر في الأسعار العالمية. لقد انتهت دراسة للبنك الدولي إلى نتيجة مفادها، أن السياسات التي تنتهجها كل دولة تؤدي إلى تثبيط تحركات الأسعار المحلية، فالاستخدام المشترك للسياسات في عديد من الدول كان سببا في تضخيم الزيادة في الأسعار العالمية، وقد أدت هذه السياسات الغذائية، إضافة إلى استجابات السياسات الحكومية في الفترة 2010-2011، إلى سقوط 8.3 مليون شخص في براثن الفقر.

إنشرها