الحرب الباردة الثانية والحفاظ على التعاون الاقتصادي «1 من 4»

منذ بداية المقال أتساءل: هل نحن على شفا حرب باردة ثانية؟ فالمؤرخ نيال فيرجسون يرى أننا مقبلون عليها بالفعل. وإذا كان الأمر كذلك، فماذا يعني ذلك بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي؟ وكيف نستطيع الحفاظ على المكاسب التي تحققت من الانفتاح الاقتصادي وسط عالم أكثر تشرذما؟
للإجابة عن هذين السؤالين سأبدأ برصد موجز لتاريخ العلاقات التجارية عبر الحدود خلال القرن الـ20. وانتقل بعد ذلك إلى استعراض المتوازيات والفروق بين فترة "الحرب الباردة" والوقت الراهن. وسأشرح دلائل التشرذم التي نراها في بيانات التجارة والاستثمار حتى الآن، وسأستعرض التكاليف الاقتصادية المحتملة في حال تعمقت التصدعات. وأختتم بطرح ثلاثة مبادئ من أجل حماية التعاون الاقتصادي في عالم بات أكثر تشرذما.
لا شك أن الجائحة والحرب وتنامي التوترات بين أكبر اقتصادين في العالم ـ أي الولايات المتحدة والصين ـ قد غيرت قواعد اللعبة بالنسبة إلى العلاقات الاقتصادية العالمية. فالولايات المتحدة تدعو إلى "التوريد من الدول الصديقة"، بينما يدعو الاتحاد الأوروبي إلى "تخفيف الأخطار"، وتدعو الصين إلى "الاعتماد الذاتي". وأصبحت شواغل الأمن القومي تشكل السياسة الاقتصادية في جميع أنحاء العالم.
في الوقت ذاته، نجد أن النظام العالمي القائم على القواعد لم يكن مبنيا لتسوية الصراعات التجارية القائمة على اعتبارات الأمن القومي. فأصبح لدينا الآن دول تتنافس استراتيجيا بقواعد غير محددة الملامح ودون حكم يتسم بالفاعلية.
هناك منافع تعود على الدول التي تعتمد قواعد اللعبة هذه في إطار سعيها لتخفيف أخطار سلاسل إمداداتها وتقوية أمنها القومي. ولكن إذا تعذر التعامل مع التكلفة بالشكل الملائم فمن الممكن بسهولة أن تطغى على المنافع، مع احتمال أن تعكس مسار الإنجازات التي تحققت على مدار ثلاثة عقود من السلام والتكامل والنمو التي ساعدت على انتشال مليارات البشر من براثن الفقر.
في ظل توقعات النمو العالمي الأضعف على مدار عقود، ومع استمرار الندوب الاقتصادية غير المتناسبة جراء الجائحة والحرب في إبطاء وتيرة تقارب الدخل بين الدول الغنية والفقيرة، ليس بوسعنا أن نتحمل مغبة حرب باردة أخرى.
أبدأ باستعراض التاريخ. ليست هذه هي المرة الأولى التي تتعرض فيها العولمة للخطر ولا المرة الأولى التي تتسبب فيها الاعتبارات الجغرافية ـ السياسية في تشرذم تدفقات التجارة ورؤوس الأموال العالمية، فقد شهد العالم فورة في التجارة الدولية خلال القرن الـ19 "الطويل"، على مدار فترة استمرت 125 عاما بدءا بالثورة الفرنسية في 1789. لكن الحرب العالمية الأولى أنهت فجأة هذا العصر الذهبي للعولمة مع انهيار التجارة العالمية كنسبة من الدخل. وجاءت الظروف الاقتصادية العصيبة التي أعقبت الحرب لتمهد الطريق أمام صعود نجم الزعماء القوميين والسلطويين الذين قادوا العالم لاحقا إلى هوة الحرب العالمية الثانية. وبعد الحرب العالمية الثانية، نشأ عالم متشرذم ثنائي القطب تهيمن عليه قوتان عظميان ـ الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ـ يقسمه الفكر الأيديولوجي والهياكل السياسية والاقتصادية. وفيما بينهما وقفت مجموعة من الدول غير المنحازة في مهب الخطر.
لم تكن فترة "الحرب الباردة"، بين أواخر الأربعينيات وأواخر الثمانينيات من القرن الماضي، فترة تراجع عن العولمة نظرا إلى أنها تميزت بالارتفاع المتواصل في نسبة التجارة العالمية إلى إجمالي الناتج المحلي مدفوعا بالتعافي الاقتصادي في فترة ما بعد الحرب وسياسات تحرير التجارة التي اعتمدتها دول كثيرة في الكتلة الغربية. غير أنها كانت فترة تشرذم، حيث أسهمت خلالها الاعتبارات الجغرافية ـ السياسية بقوة في تشكيل تدفقات التجارة والاستثمار. فانهارت معدلات التجارة بين الكتلتين المتعارضتين من نحو 10 ـ 15 في المائة إلى أقل من 5 في المائة من التجارة العالمية خلال الحرب الباردة.
وبنهاية الحرب الباردة، سرعان ما توسعت التجارة بين الكتلتين المتنافستين سابقا، لتصل إلى ما يقارب ربع التجارة العالمية في العقد التالي. وتزامنت نهاية الحرب الباردة كذلك مع فترة العولمة المفرطة في التسعينيات من القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحالي، إذ تآلفت عوامل الابتكار التكنولوجي، والتحرير التجاري الأحادي ومتعدد الأطراف، والتغيرات الجغرافية ـ السياسية والمؤسسية لتأخذ التكامل الاقتصادي إلى مستويات مرتفعة غير مسبوقة.. يتبع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي