ديون ترتفع وموازنات تنفلت

واجه النشاط الاقتصادي العالمي تباطؤا أكثر حدة مما كان متوقعا، وبلغ التضخم أعلى مستوياته منذ أعوام عديدة. وكان النمو هذا العام هو الأضعف منذ 2001 باستثناء مرحلة الذروة أثناء جائحة كورونا (كوفيد- 19) والأزمة المالية العالمية 2008. وأدى الصراع بين روسيا وأوكرانيا، وارتفاع تكاليف المعيشة، وتشديد الأوضاع المالية في جميع أنحاء العالم- إلى جانب استمرار الجائحة- إلى إرباك الأسواق العالمية، وإحداث تضخم عالمي أسهم في التباطؤ الاقتصادي الذي شهده أخيرا. كما أضاف الصراع الروسي الأوكراني مزيدا من الضغط على الإمدادات مسببا ارتفاع أسعار السلع في وقت بدأ فيه تشديد الأوضاع المالية يدخل حيز التنفيذ. ويمكن وصف الوضع العالمي الحالي بأنه ركود في النمو ترتفع فيه البطالة ويقل فيه نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي عن النسب المتوقعة، ومع ذلك أسهمت الاستجابات الأولية للسياسات العالمية في تجنب أسوأ النتائج الاقتصادية، وغذت "الطلب" بينما تعافى "العرض" ببطء.
ومن هذه الخلفية القاتمة، فإن الوضع الاقتصادي العالمي في العام المقبل لن يكون مشرقا تماما، وسط تبعات سلسلة من المشكلات التي مر بها في العام الحالي، وتلك التي تركت آثارها على مدى أربعة أعوام على الأقل، ولا سيما في أعقاب انفجار جائحة كورونا مطلع العقد الحالي. الضغوط على الاقتصاد العالمي ستستمر في العام المقبل، سواء من جهة تراجع النمو المتوقع، أو من ناحية مواصلة التشديد النقدي اللازم لاستمرار الحملة ضد الموجة التضخمية، رغم النجاحات التي تحققت في الأشهر الماضية على هذا الصعيد. فحتى الدول "القائدة" للنمو العالمي لن تحقق المستوى المطلوب في الأشهر المقبلة. وهذه الضغوط تصاحبها أخرى، آتية من "جبهات" مختلفة، بما في ذلك الإنفاق المتعاظم على الكوارث الطبيعية، التي وقعت بوتيرة كبيرة في العام الجاري، في جهات العالم الأربع. وهذا يضيف أعباء ثقيلة على الدول في مواجهة تكاليف الكوارث، بينما تعاني أغلبيتها ديونا مرتفعة، وانفلاتا في موازناتها.
ولا شك أن الآثار التي تتركها الحرب الدائرة في أوكرانيا ستتواصل في العام الجديد، في ظل غياب أي احتمال على الأقل في الوقت الراهن لتوقفها، بينما تدور أخرى خطيرة في قطاع غزة، التي رفعت من اضطرابات منطقة الشرق الأوسط، وأثرت بصورة مباشرة في المسارات الاقتصادية عموما. فالحرب الأوكرانية لا تزال تضغط على الاقتصاد العالمي من حيث تكاليفها، فضلا عن الاضطرابات الموجودة في ساحة سلاسل التوريد، رغم تراجع الضغوط فيها بعض الشيء في الآونة الأخيرة. فتكاليف الطاقة التي زادت بعد الحرب ستبقى في الأشهر المقبلة. لكن بلا شك، هناك مؤشرات جيدة على إمكانية تخفيف الضغوط الآتية من سلاسل الإمداد في الفترة المقبلة، خصوصا مع بروز مصادر أخرى للإمدادات من هذه الجهة أو تلك، وتم هذا بفعل الحرب الأوكرانية ذاتها. وهذا يطرح السؤال الأهم حول تأثيرات الحرب في فاتورة الكوارث الطبيعية والحروب الباهظة. وهنا على اقتصاد المنطقة، التي تواجه كغيرها من المناطق في العالم، مصاعب بفعل الاضطرابات الاقتصادية الدولية عموما.
وإذا ما تواصلت الحرب في القطاع، ستكون هناك ضغوطات على الاقتصادات الإقليمية. فهذه الأخيرة تحتاج إلى مزيد من الاستقرار الإقليمي للانطلاق مجددا نحو آفاق ما قبل الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة. والحق، أنه لا توجد حرب يمكن أن تكون أفضل من أخرى. فالحروب تضرب كل مناحي الاستقرار والتنمية والتعافي في كل الأوقات. في ظل هذه الأجواء، تجري خطوات حثيثة لتوسيع التكتلات السياسية والاقتصادية، وهذا أمر بات واضحا، من أجل تعزيز الشراكات الموجودة وإنشاء أخرى لتوسيع نطاق الفرص. لكن حتى هذا الجانب يسير وفق محاذير مختلفة، نتيجة الخلافات الجيوسياسية وغيرها من المؤثرات والاستقطابات الأخرى.
المشكلات كثيرة على الساحة الدولية، وسيتوسع نطاق بعدها في العام المقبل، بل هناك مؤشرات تدل على أن بعضها سيستمر حتى نهاية العقد الحالي. فالسعي الراهن لتحقيق مزيد من الإنجازات العملية على صعيد التغير المناخي، متواصل، لكن الخلافات بين بعض القوى حوله موجودة من جهة كيفية المعالجة النهائية لأزمة المناخ بشكل عام. ولكن هناك قفزات نوعية بالفعل على صعيد تمويل البرامج الخاصة بحماية المناخ، والتزام يتزايد من جانب دول مؤثرة في المشاريع الهادفة للوصول إلى الحد الأدنى على الأقل في هذا المجال، دون ضمان تمكن العالم من تحقيق هدف ارتفاع حرارة الكرة الأرضية إلى 1.5 درجة مئوية كحد أقصى.
رغم الجهود التي تبذل في الساحة الصينية مثلا، هناك ضغوط جمة على صعيد بعض القطاعات ولا سيما العقارات، التي قد تتفاقم في الأشهر المقبلة، خصوصا مع التضييق المالي الحكومي بهدف ضبط التمويل. ومثل هذه الأزمة، ستؤثر حتما إذا ما استفحلت أكثر على النشاط الاقتصادي العام في الصين، خصوصا في ظل الانكشافات المالية في هذه الساحة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي