منطقة اليورو .. الضغوط والمصاعب
يضغط عديد من التحديات المتزامنة على الاقتصادات الأوروبية، حيث لا تزال معدلات التضخم تحلق بعيدا عن هدف الاتحاد الأوروبي البالغ 2 في المائة، علاوة على ارتفاع معدلات الفائدة ضمن السياسات الرامية لكبح جماح التضخم، وأثر ذلك في الاستثمار والصناعة، إضافة إلى أزمة الطاقة وأثر تباطؤ الانتعاش في الصين، وعوامل داخلية مختلفة من بينها نقص الأيدي العاملة، وعوامل أخرى تواجه هذه الاقتصادات في القارة العجوز. وتعد أوروبا من بين المناطق الأكثر تأثرا بالأضرار الناجمة عن تدهور الاقتصاد العالمي، الذي بدأ منذ 2022. لكن القارة العجوز تشهد وضعا أسوأ في 2023، فبينما كان الاتحاد الأوروبي في العام الماضي قادرا على تخزين الوقود لتوفير الاستهلاك العالمي والطلب على الكهرباء، فإن هذا الاحتياطى من الوقود والغاز الروسي بدأ في النفاد.
فالمصاعب التي تواجه الاقتصاد الأوروبي عموما بوتيرة مستمرة، واقتصاد منطقة اليورو على وجه الخصوص لم تنته بعد، والضغوط عليه لا تزال حاضرة في الساحة، في الوقت الذي حقق فيه هذا الاقتصاد قفزات لافتة على صعيد خفض التضخم، وإن كان لم يصل بعد إلى الحد الأقصى الرسمي عند 2 في المائة. ولا شك في أن سياسة رفع الفائدة التي اتبعها البنك المركزي الأوروبي كانت السبب الوحيد في خفض أسعار المستهلكين، لكن مع استمرار الضغوط، فالقلق يبقى موجودا على الساحة الأوروبية عموما. فـ"المركزي الأوروبي" أبقى سياسة الباب المفتوح في التعاطي مع الفائدة في المرحلة المقبلة، ولم يتردد في الإعلان مرارا، بأنه سيرفعها إذا ما دعت الحاجة لذلك، وتمسك بهذه السياسة، حتى بعد أن تراجع التضخم في منطقة اليورو إلى 2.4 في المائة الشهر الماضي على أساس سنوي، في حين كانت التوقعات تشير إلى وصوله إلى 2.9 في المائة.
وفي كل الأحوال، تظل سياسة التشديد النقدي هي الآلية الأهم في الوقت الراهن، ما طرح سلسلة من الأسئلة حول وضعية الاقتصاد الأوروبي، بل العالمي كله في الأشهر المقبلة، ولا سيما على صعيد أدائه. فهل هو في هبوط ناعم أم حاد؟ لا شك أن الوضع الراهن يشير بوضوح إلى أن اقتصاد أوروبا يتجه إلى هذا التوجه، وهذا أفضل وضع اقتصادي خلال الأزمات الكبرى، خصوصا إذا ما كانت لهذه الأزمات روابطها العالمية الخالصة. ويرتبط هذا النوع من التغيير مرة أخرى بمستويات تكاليف الاقتراض. والأهم، أن يأتي في ظل سياسة رفع الفائدة تدريجيا وبنسب ليست كبيرة، ما يخفف الضغوط في النشاط الاقتصادي بشكل عام. فقد وصلت أسعار الفائدة في منطقة اليورو إلى 4 في المائة، وهي الأعلى منذ 2008. وفي المراجعة الأخيرة لها، اكتفى "المركزي الأوروبي" بعدم تحريكها، الأمر الذي أسهم في انفراج على الصعيد النفسي على الأقل.
لكن المشكلة تبقى موجودة، وستتواصل على الأقل في العام المقبل. فالاقتصادات العالمية والأوروبية تواجه هبوطا ناعما، للأسباب نفسها، فضلا عن أن المشهد الاقتصادي العام لا يزال بعيدا عن الوضوح. وما يجري على الساحة الأوروبية مشابه تماما لما يجري على الساحات الاقتصادية المشابهة من حيث التشريعات والسياسات المتبعة. وفي الساحة الأوروبية تزداد الضغوط حدة، في ظل مصاعب عميقة في قطاع العقارات، الذي يعد أحد أعمدة الاقتصاد الأوروبي كله. فالفائدة المرتفعة أدخلت هذه السوق شبه ركود. حتى إن بعض الشركات العقارية المطورة، باتت تواجه مخاطر العجز عن السداد في المرحلة المقبلة. هذا الوضع أدى إلى توقع مشاريع عقارية كبرى، بعد أن فشل القائمون عليه من تأمين التمويل اللازم.
ووفق البنك المركزي الأوروبي، فإن الاقتصاد الفرنسي يعد الأكثر سوءا، مقارنة ببقية الاقتصادات الأوروبية القريبة من حجمه، رغم "الهدوء" الراهن على ساحة الفائدة واستقرارها، إلا أن المصاعب المتزايدة تضرب بصورة كبيرة الشركات في أوروبا. واستنادا إلى التقديرات الرسمية، هناك ما لا يقل عن 53 في المائة من الشركات الفرنسية (مثلا) ستكون مضطرة إلى إعادة التمويل بحلول 2025، وهناك شركات أوروبية أخرى تواجه المصير نفسه تقريبا. وهذا يعني مواصلة الاضطراب على صعيد الإنتاج والخدمات، وإن بمستويات أقل مما كانت عليه في العامين الماضيين. الأهم من هذا، يبقى الجانب التشريعي الخاص بإعادة تنظيم القواعد المالية الأوروبية، في ظل خلافات بين حكومات أساسية أوروبيا. ورغم ظهور حلول وسط في هذه المسألة، إلا أن إصلاح قواعد الدين سيكون النقلة النوعية الأهم بحلول منتصف العقد الحالي، لخروج الاقتصاد الأوروبي عموما من الأزمات التي يمر بها.