الاغتراب
قد يكون أصعب من الغربة، يشعر الشخص الذي يعاني الاغتراب بأنه يشاهد نفسه من خارج جسمه وكأنه يتفرج على فيلم أو يعيش داخل حلم مستمر، أو أن الأشياء من حوله غير حقيقية، أو كل هذه المشاعر مختلطة. يتعرض كثير من الأشخاص لتجربة تبدد الشخصية أو الانفصال عن الواقع في فترة ما من حياتهم بشكل عابر. لكن عندما يستمر هذا الشعور أو يتكرر كثيرا ويزيد صعوبة أداء المهام الأساسية، هنا يتحول إلى مرض!
وتكون أسباب هذه العزلة أو الانفصال عن الواقع بسبب اتساع الفجوة بين التقدم التكنولوجي أو المادي الذي يتسارع يوما بعد يوم وبين المخزون القيمي الأخلاقي الذي لم يستطع مجاراته ومواكبته، ما أدى إلى شعوره بالعزلة. فالاغتراب النفسي ظاهرة باتت تستشري في كثير من المجتمعات، بل يمكن القول إنها أزمة الإنسان المعاصر، ومن العجيب أنها تزداد بازدياد وجود الناس حولنا.
وهي ليست ظاهرة جديدة، بل إنها شعور موغل في القدم تجده عبر الحضارات وفي كثير من الأديان والثقافات المختلفة، فبعد أن كان الناس يعيشون في انسجام مع مجتمعاتهم حصلت بعض الأحداث أو التغيرات التي جعلت البشر يعيشون كأنهم أجانب في مجتمعاتهم. إنها ظاهرة إنسانية تجسد ما يشعر به الإنسان من غربة، وما يحسه من زيف الحياة، وسطحية العلاقات مع الآخرين بصورة تكاد تهدد وجوده، يعيش الشخص الذي يعاني الاغتراب صراعا نفسيا وشرود ذهن ويزيد اعتقاده بالخرافات وممارسة بعض السلوكيات السلبية سعيا للخلاص مما يعانيه!
يرجع العلماء أحد أهم أسباب الشعور بالاغتراب إلى درجة الاهتمام التي يتلقاها الفرد في طفولته المبكرة، فمعظم الذين يعانون حالات الاغتراب الشديد والعزلة، عانوا في طفولتهم افتقاد التقارب الجسدي والعاطفي مع والديهم أو عاشوا طفولة مضطربة مع أمهات قلقات مسيطرات وآباء شديدي المثالية!
فالتوقعات المبالغ فيها من قبل الآباء حيث يجعلون حبهم لأطفالهم وعطاءهم مشروطا بسلوك أو إنجاز معين، يدفع هؤلاء الأطفال للاغتراب. يقول عالم النفس البروفيسور بول شيلدر: لا يولد من يعاني الاغتراب مغتربا، كما أنه لا يختار اغترابه، إنه يعاني القلق نتيجة افتقاده القبول التلقائي، والحب والعناية بفرديته في أعوام طفولته المبكرة، وهو يتحرك منذ البداية بعيدا عن ذاته، وما يشعر به، وما يرغب فيه، وعما هو هو، ويركز جهده كله على أن يصبح ما "ينبغي" أن يكونه، ويضفي بعد ذلك طابعا مثاليا على طمسه لذاته.