الشركات الألمانية تدفع الثمن

تضغط عديد من التحديات المتزامنة على الاقتصاد الألماني، حيث لا تزال معدلات التضخم تحلق بعيدا عن هدف الاتحاد الأوروبي البالغ 2 في المائة، علاوة على ارتفاع معدلات الفائدة ضمن السياسات الرامية لكبح جماح التضخم وأثر ذلك في الاستثمار والصناعة، إضافة إلى أزمة الطاقة وأثر تباطؤ الانتعاش في الصين، وعوامل داخلية مختلفة من بينها نقص الأيدي العاملة، وغيرها من العوامل التي تواجه أكبر اقتصاد في أوروبا.
ومن هذا المشهد فإن المشكلات التي يمر بها الاقتصاد الألماني كبيرة، ولكنها تبقى تحت السيطرة أكثر من مثيلاتها في الدول الأوروبية، ولا سيما الكبيرة منها. ومصاعب هذا الاقتصاد بدأت عمليا في الوقت الذي انتشرت فيه الأزمات حول العالم قبل أكثر من عامين، واقتحمت في "ممرات" مقلقة بالنسبة إلى الحكومة في برلين. ولا تزال مسببات هذه المصاعب مستمرة، سواء من جهة ارتفاع التضخم، وزيادات أسعار الفائدة الأساسية، وتفاقم المواجهات الجيوسياسية، وبالطبع من ناحية الطاقة التي مثلت حجر الزاوية في التعثر الحالي على الساحة الألمانية. وتبقى النقطة الأهم في ظل هذا المشهد، وهي أن أكبر اقتصاد في أوروبا، لن يصل إلى المرحلة الحرجة في المستقبل المنظور على الأقل، لأسباب تتعلق بتركيبة هذا الاقتصاد وقوته المستمدة من أدائه التاريخي الجيد عموما.
ومع ذلك، تشهد ألمانيا موجة من إفلاس الشركات هي الأكبر منذ عقود، وستستمر هذه الموجة في العام المقبل، ما يزيد من حجم الضغوط على الاقتصاد المحلي، ولا سيما على صعيد إضافة أرقام جديدة للعاطلين عن العمل في البلاد، فضلا عن خسائر للمؤسسات المالية المنكشفة على هذه الشركات. والتحديات التي تمر بها هذه الأخيرة ستبقى مستمرة في 2024، خصوصا على صعيد تكاليف الطاقة التي وصلت إلى مستويات لم تعد محتملة من قبل نسبة كبيرة من الأعمال في الداخل الألماني. ورغم تراجع أسعار الطاقة عما كانت عليه وقت انفجار الحرب في أوكرانيا، إلا أنها لا تزال تضغط على القطاع الإنتاجي، فضلا عن الآثار التي تركتها الاضطرابات التي مرت بها سلاسل التوريد.
أرقام الشركات التي أعلنت إفلاسها هذا العام مقلقة جدا، خصوصا أنها متواصلة في العام المقبل. فقد بلغت في 2013 نحو 18 ألف حالة إفلاس، بزيادة 23 في المائة تقريبا على العام الذي سبقه. بينما تدور التوقعات حول وصول عدد حالات الإفلاس إلى مستويات أخرى جديدة في الأشهر المقبلة، خصوصا أن أكثر من 300 ألف شركة معرضة للإفلاس، مع غياب المؤشرات الدالة على إمكانية عودة الاستقرار إلى مسار الاقتصاد المحلي في وقت قريب. لكن هذا، لا يلغي أهمية حزم الدعم الحكومية التي أطلقتها البلاد في أعقاب تفشي جائحة كورونا، فضلا عن تسهيلات قدمت للمؤسسات الألمانية لمواجهة الاستحقاقات الناجمة عن اضطرابات سلاسل التوريد، وارتفاعات كبيرة لأسعار المستهلكين. علما بأن البنك المركزي الأوروبي، لا يزال متمسكا بسياسة الباب المفتوح في علاج التضخم، بما في ذلك إمكانية رفع تكاليف الاقتراض إذا ما دعت الحاجة إلى ذلك.
ولا شك أن المصاعب لن تتوقف على الساحة الألمانية، فقطاع السيارات تعرض الشهر الماضي للتدهور، ويعاني قطاع العقارات مصاعب جمة، بما في ذلك تعثر بعض شركات التشييد عن السداد. وبعيدا عن الخلافات السياسية حول حزم الدعم، وطريقة استعادة الأموال الحكومية التي ضخت في هذه العمليات، إلا أن الاقتصاد الألماني يبقى الأكثر استقرارا مقارنة باقتصادات دول كفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، وبالطبع بريطانيا. فألمانيا لا تعاني ديونا حكومية مرتفعة كغيرها، وهذا يخفف الضغط عليها، على عكس بريطانيا التي فاق حجم الدين العام فيها ناتجها المحلي الإجمالي، وكذلك الأمر على الساحة الفرنسية مثلا. لكن مخاوف من توسع دائرة الشركات المعرضة للإفلاس، يرفع من حدة القلق في برلين، المنغمسة (كغيرها من العواصم الرئيسة) في الوصول إلى نهاية سريعة للتضخم، والسيطرة على سلاسل التوريد، على أمل أن تخف المواجهات الجيوسياسية المساهمة في زيادة المصاعب هنا وهناك.
خلاصة الأمر، إنه في ظل معاناة الاقتصاد الألماني الذي يواجه صعوبة في الخروج من الأزمة الاقتصادية والمالية التي ضربت أكبر اقتصاد في أوروبا وثالث اقتصاد في العالم. ومن ثم سيدفع كثير من الشركات الثمن لهذه الأزمة، حيث اضطر عشرات الآلاف منها إلى إشهار إفلاسها كما أنه من المتوقع أن يستمر مسلسل إشهار الإفلاس خلال الفترة المقبلة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي