التأثيرات الجيوسياسية واتجاهات الاقتصادات

ما زالت الأرقام والإحصائيات من خلال التقارير المتنوعة والمختلفة، التي تصدرها المنظمات الدولية الاقتصادية والمالية المتخصصة في تقييم مؤشرات نمو حركة الاقتصاد العالمي، متأرجحة في توقعاتها من فترة إلى أخرى، حسب الأحداث التي يشهدها العالم خاصة المرتبطة بالصراعات الجيوسياسية وعوامل أخرى، وأصبح هذا النمو يوصف بأنه هش أو بطيء في تحركه وتقدمه أو استمراره أو ثباته لوقت طويل.
ولعلنا نقف طويلا في التقرير الدوري، الذي صدر أمس عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD عن الآفاق الاقتصادية، الذي جاء في عدة نقاط توضح مسار الاقتصاد العالمي في المدى المتوسط، فالتضخم يتراجع، لكن النمو يتباطأ، كما أن وتيرة النمو متفاوتة، وهناك هبوط سلس للاقتصادات المتقدمة، فالتجارة العالمية ضعيفة، بينما تتصاعد الضغوط المالية في عديد من الدول.

هذا التقرير الاقتصادي، قد استوعب المخاطر الناجمة من توسع التوترات الجيوسياسية المتزايدة بسبب النزاع بين إسرائيل وحماس في قطاع غزة، ووصف هذا الوضع بأنه مصدر قلق رئيس على المدى القريب، خاصة إذا اتسع نطاق الصراع، ما قد يؤدي ذلك إلى اضطرابات كبيرة في أسواق الطاقة وطرق التجارة الرئيسة، وإعادة تسعير المخاطر الإضافية في الأسواق المالية، وهو ما من شأنه أن يبطئ النمو ويزيد من التضخم.

وهذا يدل على أن مشكلات سلاسل الإمداد في العالم تعد نقطة ضعف رئيسة، فحين ينشب النزاع في أي مكان في العالم تصبح مهددة كليا، خاصة أن التجارة العالمية لم تزل تعاني القيود التجارية والسياسات الانغلاقية وإعادة هيكلة سلاسل القيمة العالمية، ما يجعل التوقعات عن التجارة العالمية غير مؤكدة في أفضل وصف لها، وعدم اليقين هذا يعود إلى أن استمرار ضغوط التكلفة، أو تجدد الارتفاع في أسعار الطاقة والغذاء، أو عودة التضخم إلى الارتفاع، يمكن أن يعيد البنوك المركزية إلى مشكلة رفع أسعار الفائدة أو على الأقل إبقاؤها عند المستويات الحالية (وهي مرتفعة) لفترة أطول ما قد يولد ضغوطا على الأسواق المالية، كما أن ارتفاع أسعار الفائدة ومعايير الائتمان يؤديان إلى تباطؤ الإنفاق، وارتفاع معدلات البطالة وحالات الإفلاس، ويزيدان من ضغوط خدمة الديون في الدول المنخفضة الدخل.

مع هذه التحديات فقد رجحت المنظمة الدولية أن يتراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي إلى 2.7 في المائة في 2024، من 2.9 في المائة هذا العام، قبل أن يرتفع إلى 3 في المائة في 2025 مع تعافي نمو الدخل الحقيقي وبدء انخفاض أسعار الفائدة، ومن المتوقع أن يستمر التضخم السنوي لأسعار المستهلك في اقتصادات مجموعة العشرين في التراجع تدريجيا مع اعتدال ضغوط التكلفة، لينخفض إلى 5.8 و3.8 في المائة في 2024 و2025 على التوالي، من 6.2 في المائة في 2023. وبحلول 2025، من المتوقع أن يعود التضخم إلى الهدف في 2025 في معظم الاقتصادات الكبرى.
وتشير تقديرات المنظمة الدولية إلى أن وتيرة النمو متفاوتة، فمن المرجح أن تحقق الأرجنتين في أدنى السلم انكماشا بنسبة 1.3 في المائة، خلال العام المقبل لتعود إلى النمو بنسبة 1.9 في المائة في 2025، بينما الهند في أعلى السلم، تأتي بنمو قدره 6.1 في المائة للعام المقبل وستزيد إلى 6.5 في 2025، وبينما تحقق مجموعة العشرين نموا في حدود 2.8 في المائة للعام المقبل فمن المرجح أن تنمو بحدود 3 في المائة، لكن مجموعة دول منظمة التعاون الاقتصادي التي من بنيها دول ليست في مجموعة العشرين، فإن النمو سيكون في حدود 1.4 في المائة لعام 2024، وفي حدود 1.8 في العام الذي يليه، هذا المؤشرات تؤكد أن النمو متفاوت بشكل واسع بين دول العالم، وتستمر السعودية والصين وإندونيسيا والهند في قيادة النمو العالمي، بينما تعاني المملكة المتحدة وإيطاليا ضعف وهشاشة النمو، فقد تباطأت منطقة اليورو بنسبة 0.1 في المائة فقط خلال العام حتى الربع الثالث من 2023، وشهدت عديد من الدول انخفاضا في الإنتاج خلال الفترة نفسها، ولا سيما في أوروبا الوسطى والشرقية، وفي أوروبا بشكل عام، وهذا يعود إلى الآثار العميقة للحرب الروسية - الأوكرانية مع صعوبات في التمويل المصرفي وضغوط على الدخل لارتفاع تكاليف الطاقة، وليست هناك معالجة قريبة في المنظور المتوسط، فقد تستمر هذه الوتيرة لفترة أطول في أوروبا عموما، ولم تكن الحال في اليابان بأفضل من المملكة المتحدة على الرغم من كونها الاقتصاد المتقدم الرئيس الوحيد الذي لم يقم بتشديد السياسة النقدية فلم تحقق اليابان أكثر من 1 في المائة من النمو وقد يصل إلى 1.2 في العام المقبل عند مستوى النمو نفسه في بريطانيا.
ومن الملاحظ أن النمو المتفاوت في العالم، يأتي وفقا لأسباب متفاوتة أيضا، فالذين نجوا من تأثيرات الحرب، لم ينجوا من تأثيرات سلاسل الإمداد، أو من ارتفاع أسعار الطاقة.
هذه الظروف المتباينة أدت إلى أن النمو العالمي بشكل عام يفقد زخمه في عديد من الاقتصادات مع مؤشرات غير مواتية مثل تراجع مؤشر مديري المشتريات وانخفاض مستويات ثقة المستهلك، وزيادة حالات إفلاس الشركات في عديد من دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بسبب ارتفاع أعباء خدمة الديون، وتشديد معايير الائتمان، وتباطؤ نمو المبيعات، ويشير تقرير المنظمة الدولي إلى أن الاستثمار في الإسكان قد تأثر بأسعار الفائدة، فتباطأت الاستثمارات السكنية هذا العام في شيلي والصين وكولومبيا وجنوب إفريقيا، وتباطأ ارتفاع أسعار المنازل، الذي كان قويا في عديد من الدول في 2021 ومعظم 2022، بل انعكس في بعض الحالات، حيث انخفضت أسعار المساكن في كل مكان تقريبا بالقيمة الحقيقية، كما انخفض حجم المعاملات بشكل حاد، وهناك دلائل تشير إلى وصول الاستثمار في قطاع الإسكان إلى أدنى مستوياته في بعض الدول التي شهدت بالفعل انخفاضا حادا، بما في ذلك الولايات المتحدة، فإن المبيعات والاستثمارات ما زالت تتراجع في عديد من الدول الأخرى، خاصة في أوروبا.
خلاصة الأمر، إنه وبناء على هذه الظروف المتباينة، التي أدت إلى نمو ضعيف، فإن المنظمة الدولية تقترح على صناع السياسات إعطاء الأولوية لاستقرار الاقتصاد العالمي، والإصلاحات الهيكلية، والسياسات المالية الذكية، والتعاون الدولي لتعزيز النمو المستدام والشامل، وهذا قد يتطلب قرارات شجاعة لإيقاف الحروب والنزاعات ومعالجة قوية وعاجلة لمشكلات سلاسل الإمداد العالقة، وضمان عدم حدوث مفاجآت في القريب المقبل، فالعالم قد لا يتحمل نزاعا جديدا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي