تدهور الأوضاع في الضفة الغربية .. وتزايد هجمات المستوطنين
أدت تداعيات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وممارسات المستوطنين باقتحام المسجد الأقصى والفصل الزماني والمكاني للحرم القدسي إلى تدهور البيئة الأمنية في الضفة الغربية، التي تتصدر لائحة مراكز الاشتباك المحتملة، في ظل استمرار الهجوم الإسرائيلي على القطاع. شهدت الضفة الغربية نشاطا في غطرسة العناصر اليهودية المتطرفة من سكان المستوطنات الإسرائيلية المحاذية للمدن والقرى الفلسطينية، إذ تعمل هذه الجماعات الاستيطانية على تأجيج العنف اليهودي ضد الفلسطينيين، ما يدفع السكان هناك لتنظيم انتفاضة جماعية.
أكدت إسرائيل التزامها في قمة العقبة مطلع العام الجاري، بوقف مناقشة إقامة أي وحدات استيطانية جديدة لمدة أربعة أشهر، ووقف الترخيص لأي بؤر استيطانية لمدة ستة أشهر، لكن تراجعت مباشرة عن التزاماتها بأنه لن يكون هناك أي تجميد للبناء والتطوير، ولا حتى ليوم واحد. وبعد مرور نحو سبعة أشهر على قمة العقبة وافقت لجنة التخطيط الإسرائيلية في القدس في 15 سبتمبر 2023 على خطتين قانونيتين لبناء أربعة آلاف وحدة استيطانية سكنية في القدس الشرقية، لتحقق هذه المستوطنات رؤية حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو التي تحركها أيديولوجية يمينية متطرفة.
سبق أن رفض بنيامين نتنياهو مبادرة السلام العربية، التي طرحتها جامعة الدول العربية عام 2002، التي تطالب بتجسيد استقلال دولة فلسطين كاملة السيادة بعاصمتها القدس الشرقية، على حدود عام 1967، وحل قضية اللاجئين وفق قرارات الشرعية الدولية، وبالذات القرار 194، وتطبيق قرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن، التي تؤكد عدم شرعية الاحتلال والاستيطان، خاصة القرار 2334.
بالوقت الراهن، يواجه بنيامين نتنياهو انتقادات وهجوم واسع داخل إسرائيل منذ هجمات الـ7 من أكتوبر 2023، فيما تتهمه دوائر سياسية عدة في الداخل بالفشل الأمني والسياسي، وتطالب بإقالة حكومته على خلفية الأزمة، والاعتراف بالفشل والخطأ في السياسات، خاصة ما يتعلق بتوسيع المستوطنات بشكل لا يتناسب مع الاتفاقيات الدولية والقانون.
وتشير أغلبية التقديرات إلى انتهاء المستقبل السياسي لرئيس الوزراء بعد 15 عاما من الحكم، ويعد بنيامين نتنياهو صاحب أطول مدة في تولي رئاسة الحكومة الإسرائيلية، وهو من أشد الرافضين لإقامة دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967، كما أنه من أكثر الداعمين لسياسة الاستيطان في الضفة الغربية.
تسعى إسرائيل إلى بناء المستوطنات وزيادة عدد المستوطنين الذين يعيشون على الأراضي الفلسطينية المحتلة بمواصلة بناء المستوطنات بشكل مخالف للقانون، من خلال استراتيجية "إثبات الحقائق على الأرض"، في الوقت الذي تتظاهر بتقديم جهود صادقة للتوصل إلى تسوية للصراع عن طريق التفاوض.
تشكل الضفة الغربية مصدر جذب للشباب اليمينيين المتطرفين الذين يحرصون على المساهمة في استيطان "أرض إسرائيل" وتقليص الوجود الفلسطيني فيما يعدونه الوطن اليهودي، ويتسرب عديد منهم من نظام التعليم، وينفصلون عن عائلاتهم، ويتركون منازلهم في إسرائيل، وينتقلون إلى الضفة الغربية، وهناك يميلون إلى إقامة بؤر استيطانية غير قانونية ويعدون سيادة القانون الإسرائيلي بمنزلة توصية وليس مطلبا.
المؤسسات الأمنية الإسرائيلية لم تقم بما يلزم لإيقاف جرائم المستوطنين، على الرغم من حقيقة مفادها أن عنف اليهود المتطرفين يهدد بتقويض مصالحهم، من خلال تأجيج مواجهة شاملة في الضفة الغربية، حيث تراوح مواقف بعض السلطات الإسرائيلية بين عدم الكفاءة والإنكار وبين التعاطف والتماهي التام مع مرتكبي العنف.
في الوقت نفسه، فإن "الأدوات الناعمة" التي يدعو إليها بعض القادة السياسيين والدينيين، أي التعليم والرعاية الاجتماعية والمشاركة، لم تحقق كثيرا من التأثير في الظاهرة المتطرفة.
نشرت وكالة الأنباء الفرنسية تقريرا، يروي فيه بعض أهالي الضفة الغربية بأنهم يتعرضون لمضايقات متزايدة من مستوطنين إسرائيليين يغلقون الطرقات، وينفذون هجمات مسلحة، ويدمرون آبار مياه، مشيرين إلى أن هؤلاء يزدادون عدائية منذ بداية الحرب بين إسرائيل وحماس في قطاع غزة.
في الضفة الغربية التي تحتلها إسرائيل منذ 56 عاما، يعيش 490 ألف مستوطن بين ثلاثة ملايين فلسطيني، وتعد الأمم المتحدة هذه المستوطنات غير قانونية، بموجب القانون الدولي.
أدت السياسات اليمينية المتطرفة إلى توتر الظروف المعيشية بالضفة الغربية، ما مكن المستوطنين من ممارسة العنف والأساليب المعادية تجاه السكان الفلسطينيين، ما ولد ردود أفعال قاسية من قبلهم في وجه هذه التجاوزات، لتظهر حركات مسلحة مستقلة تماما أساسها الشباب الغاضب، بعيدا عن أي تنظيم فلسطيني مسلح، أشهرها "كتيبة جنين"، و"عرين الأسود".
ظهرت كتيبة جنين، وهي مجموعة مسلحة من الشباب الفلسطيني عام 2021 في مدينة جنين، وتتخذ من مخيم جنين مقرا لها، وتعد من المجموعات الحديثة الناشئة في الضفة الغربية، ونهجها عدم ترك البندقية تحت أي ظرف كان وتوجيهها نحو الاحتلال ومستوطنيه ومن يساندهم من العملاء فقط، وعدم الخوض في أي نزاع فلسطيني داخلي مهما كان.
كما تبعتها مجموعة عرين الأسود، وهي مجموعة من الشباب الفلسطيني الرافض للظلم الواقع على أهالي مدينة نابلس، التي تأسست عام 2022 في مدينة نابلس، وهم مسلحون يمتازون بالاستقلالية عن أي فصيل أو تنظيم فلسطيني تقليدي على غرار "فتح" و"حماس"، وتتخذ هذه المجموعة من البلدة القديمة في مدينة نابلس مقرا لها، وقام الجيش الإسرائيلي باغتيال أبرز قادتها ومؤسسيها منهم إبراهيم النابلسي.
هذه التنظيمات آخذة في التمدد والتوسع في ظل زيادة الاعتداء الإسرائيلي على الفلسطينيين، في ظل مواجهة المئات من الناشطين اليهود المتطرفين، المسؤولون عن التحريض على كثير من أعمال العنف أو تنفيذها، وأغلبهم من الذكور الشباب، الذين سبقهم مجتمع "شباب التلال"، المطالب بالسيادة على "أرض إسرائيل" بأكملها، من خلال تنفيذ أعمال عنف مختلفة.
إن الحلول المتاحة على الساحة الآن متضادة: فإما تحقيق السلام الكامل وإما الغرق في موجات انتقام مستنزفة للذات، وهذا من شأنه أن يعزز اعتقاد الفلسطينيين بأن الخسارة المأساوية التي أسفرت عن سقوط أكثر 11 ألف قتيل في غزة لم تذهب سدى، وأن يتيح الفرصة للإسرائيليين بأن يزعموا أنهم على الرغم من الخسائر البشرية، فإنهم قد نجحوا في ضمان أمنهم إلى الأبد.
وعلى أي مبادرة مقترحة أن تهدف إلى تحقيق تطلعات الهوية الوطنية للفلسطينيين والإسرائيليين، من خلال تنفيذ حل إقامة الدولتين على حدود عام 1967، مع تعديلات طفيفة متفق عليها بين الطرفين، كما يترتب على هذه المبادرة أن تقدم حلولا دقيقة ومحددة لوضع القدس ولحق الفلسطينيين في العودة أو التعويض، ويجب أن تتضمن المبادرة خطة بروتوكولات أمنية مفصلة لحماية الجانبين من الهجمات المفاجئة.