تقارير و تحليلات

بحر الصين الجنوبي .. النزاعات الإقليمية تهدد شرايين التجارة الدولية بمنعطفات حادة

بحر الصين الجنوبي .. النزاعات الإقليمية تهدد شرايين التجارة الدولية بمنعطفات حادة

بحر الصين الجنوبي .. النزاعات الإقليمية تهدد شرايين التجارة الدولية بمنعطفات حادة

في أواخر أكتوبر الماضي، اصطدمت سفينة تابعة لخفر السواحل الصيني بقارب فلبيني متهالك في بحر الصين الجنوبي، لم يكن الحادث من وجهة نظر الفلبين -على الأقل- محض مصادفة، فالقارب كان في طريقه لتوصيل الإمدادات إلى موقع استيطاني تحتفظ به الفلبين على بعد نحو 100 ميل بحري من سواحلها، حيث تعيش مفرزة عسكرية صغيرة من مشاة البحرية، وكان الحادث بمنزلة إنذار جديد بتزايد التوترات في المنطقة، وإمكانية خروجها عن السيطرة وتحولها إلى نزاع مسلح.
لكن بعيدا عن الجوانب العسكرية لهذا الصدام البحري وغيره من الصدامات والاشتباكات التي تحدث من حين لآخر خاصة بين البحرية الصينية وقوارب البلدان التي تنازعها السيطرة على بحر الصين الجنوبي ومن بينها الفلبين، وما يمكن أن ينجم عن تكرار هذا النوع من الاشتباكات حتى ولو كانت محدودة من ردود فعل قد تجر المنطقة إلى أتون الحرب، نظرا لأن بعض البلدان مثل الفلبين لديها معاهدة دفاع مشترك مع الولايات المتحدة، فإن الانعكاسات التجارية لأجواء التوتر السائدة في بحر الصين الجنوبي تفوق بكثير التأثير الإقليمي، وستأخذ حتما طابعا عالميا بمنعطفات حادة، تتطلب تجنب أي أحداث كبرى عنيفة تزيد من حالة عدم اليقين الاقتصادي السائد حاليا.
على المستوى الإقليمي، هناك سبع دول تطالب بالسيادة على بحر الصين الجنوبي، الصين وتايوان والفلبين وفيتنام وبروناي وإندونيسيا وماليزيا، من جانب آخر هناك خمس دول بخلاف الصين هي الأكثر اعتمادا في تجارتها الخارجية على بحر الصين الجنوبي، فيتنام وسنغافورة وإندونيسيا واليابان وكوريا الجنوبية.
من نافلة القول، يعد بحر الصين الجنوبي طريقا تجاريا حيويا يربط الشرايين الرئيسة للتجارة في جنوب شرق آسيا، حيث يربط الممرات المائية من سنغافورة وماليزيا إلى إندونيسيا والفلبين وتايوان، يضاف لذلك وفرة الاحتياطيات الهيدروكربونية فيه والثروة الضخمة من الحياة البحرية التي تمد المنطقة باحتياجاتها من البروتين الحيواني في ظل الكثافة السكانية التي توجد فيها.
من جانبه، يقول لـ"الاقتصادية" الدكتور إم.دي. جونسون أستاذ الاقتصاد الآسيوي في جامعة برمنجهام: "يمثل بحر الصين الجنوبي حلقة وصل بين التعقيدات الجيوسياسية والمنافسة المحتدمة بين الاقتصادات الموجودة في المنطقة، فأكثر من نصف سفن الصيد في العالم توجد في بحر الصين الجنوبي، وذلك نظرا لوفرة الموارد السمكية التي تمثل نحو 12 في المائة من إجمالي صيد الأسماك في العالم، وتقدم مصدرا حيويا يضمن سبل عيش كريمة لملايين من السكان، يضاف لذلك احتياطات ضخمة غير مستغلة من النفط والغاز الطبيعي، وتشير التقديرات إلى أنه يحتوي على 11 مليار برميل من النفط و180 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي".
ويستدرك قائلا: "نظرا لهذا الثراء في الموارد فإن المنطقة محل لأكثر من عشرة نزاعات متداخلة ومترابطة حول من ستؤول له السيادة على مختلف الجزر والصخور والمياه الضحلة والشعب المرجانية المنتشرة في بحر الصين الجنوبي، هذا الصراع على الموارد ترافق مع عسكرة متزايدة تؤثر سلبا في الرخاء الاقتصادي لبلدان بحر الصين الجنوبي".
لكن أهمية بحر الصين الجنوبي تتجاوز حدوده الإقليمية ليمثل أحد الشرايين الرئيسة للتجارة الدولية، ويعمل كقناة تستوعب أكثر من ثلث حركة الملاحة البحرية العالمية ليربط الاقتصادات الآسيوية الكبرى في أسواق أوروبا وإفريقيا والأمريكيتين.
من جانبها، ترى الدكتورة أديسون لي أستاذة التجارة الدولية في جامعة لندن، أن التركيز العالي لتجارة السلع المتدفقة عبر مضيق ملقا الضيق نسبيا، تثير المخاوف من أي توترات في منطقة بحر الصين، وذلك نظرا للحجم الضخم للتجارة الدولية التي تمر به سنويا.
وذكرت لـ"الاقتصادية" أنه "في عام 2016 أشارت التقديرات إلى أن ما قيمته 3.4 تريليون دولار من البضائع تمر عبر بحر الصين الجنوبي كل عام، مع 1.2 تريليون دولار من هذا المبلغ الإجمالي تمثل قيمة التجارة مع الولايات المتحدة، الآن وعلى الرغم من عدم وجود أرقام رسمية حول حجم التجارة الدولية العابرة لبحر الصين الجنوبي، فإن أغلب التقديرات تقترب من 5.3 تريليون دولار، أي ما يقارب 16 في المائة من إجمالي التجارة الدولية التي بلغت 32 تريليون دولار العام الماضي، وهذا يكشف أهمية المنطقة وضرورة تحقيق الاستقرار فيها".
وأضافت، بالنسبة لعديد من أكبر الاقتصادات في العالم، يعد بحر الصين الجنوبي مفترق طرق بحرية أساسية للتجارة، فنحو 64 في المائة من التجارة البحرية الصينية تمر عبر هذا الممر المائي، وبالنسبة لليابان تبلغ تلك النسبة 42 في المائة، أما الولايات المتحدة فهي أقل اعتمادا على بحر الصين الجنوبي، حيث يمر ما يزيد على 14 في المائة من تجاراتها البحرية عبر المنطقة.
ومما لا شك فيه أن العداءات الكامنة في المنطقة، الآخذة في التفاقم يمكن لآثارها أن تمتد لما هو أبعد من الصراعات الإقليمية.
وعلى الرغم من أن تلك الصراعات تجسد في جزء عداءات تاريخية لم تشفى منها بلدان المنطقة، وتطلعات إقليمية تعززها حاجة البلدان المتزايدة لتأمين ممرات التجارة وضمان وفرة الموارد في ظل نموها الاقتصادي المتسارع، ودوافع استراتيجية يحركها الطموح السياسي، والتزامات دولية في ظل العلاقات الشائكة والمركبة التي تربط بلدان بحر الصين الجنوبي بكل من الولايات المتحدة والصين، فإن الآثار الناجمة عن الأهمية الاقتصادية المتصاعدة لدول المنطقة في الاقتصاد الدولي تعني أن أي صراع عنيف سيحمل أصداء دولية كارثية وسيؤثر سلبا في الممرات التجارية الرئيسة ومصايد الأسماك واحتياطات الطاقة، وسيزعزع أطر المؤسسات المالية وحتى الأمنية الدولية.
بدوره، يرى الباحث ديفيد ماكملين كبير الباحثين في المعهد الوطني لعلوم المحيطات، أن تصاعد أجواء التوتر العسكري في منطقة بحر الصين الجنوبي يمكن أن يجبر معظم السفن القادمة من أوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا المتجهة إلى آسيا والساحل الغربي للولايات المتحدة إلى تحويل مسارها حول جنوب أستراليا، وهذا سيرفع من تكلفة الشحن، إضافة إلى انخفاض النشاط الاقتصادي في جميع أنحاء العالم، لكن سيكون له آثار وخيمة أكثر إيلاما لبلدان منطقة بحر الصين الجنوبي.
وذكر ماكملين لـ"الاقتصادية" أنه "يتم نقل نحو 80 في المائة من التجارة العالمية عن طريق البحر وتراوح تقديرات الحجم المنقول عبر بحر الصين الجنوبي من 20 إلى 33 في المائة، وفي حال اندلاع نزاع عسكري ولو محدود فمن شأنه أن يغلق مضيق ملقا بين ماليزيا وإندونيسيا، وأن يوقف مرور كل الممرات بين الشرق والغرب بين المحيط الهادئ والمحيط الهندي عبر بحر الصين الجنوبي، ولربما لن يكون من العملي إعادة توجيه الشحن عبر مضيق توريس إلى شمال أستراليا، لأن الشعب المرجانية والأعماق الضحلة تجعل الأمر خطيرا بالنسبة للسفن الكبيرة".
وأضاف: "إذا توقف الشحن الدولي في المنطقة فسينكمش اقتصاد تايوان بمقدار الثلث واقتصاد سنغافورة 22 في المائة، أما هونج كونج وفيتنام والفلبين وماليزيا فستراوح الانخفاضات بين 10-15 في المائة، أما أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية فستعاني اقتصاداتهم انخفاضا يراوح بين 2 و3 في المائة، أما الاقتصاد الصيني فلن يواجه خسارة تذكر، إذ لن تتجاوز خسائره 0.7 في المائة لأن لديه أسواق محلية ضخمة وموانئ خارج منطقة الصراع المحتملة".
ويستدرك قائلا: "الخسائر الاقتصادية ستمتد إلى بلدان خارج المنطقة، إذ يمكن أن تتضرر بعض البلدان منطقة الشرق الأوسط تجاريا وأن تراوح خسائرها بين 3 و5 في المائة.
تدفع تلك التقديرات للخسائر الاقتصادية إلى طرح بعض الخبراء نهجا جديدا يعمل على عدم إهدار الطاقة في نزاعات لا تسهم في تحقيق التنمية المستدامة لبلدان المنطقة، خاصة أن النزاعات الراهنة لا يتوقع حلها وديا في الأمد القريب، ما يجعل من التنمية والاستغلال العقلاني والمنظم لموارد المنطقة مدخلا لتهدئة الأوضاع بما يعود بالنفع على الجميع.
من ناحيتها، أوضحت لورين سوري باحثة في المعهد الوطني لعلوم المحيطات، أن "اقتصاد المحيطات في جميع أنحاء العالم تقدر قيمته بنحو 1.5 تريليون دولار سنويا، ما يجعله سابع أكبر اقتصاد في العالم، ومن المقرر أن يتضاعف بحلول عام 2030 إلى ثلاثة تريليون دولار، وتقدر القيمة الإجمالية لرأس المال الطبيعي في المحيطات بمبلغ 24 تريليون دولار وهذا يدل على الإمكانات الهائلة غير المستغلة لتعاون بلدان منطقة بحر الصين الجنوبي".
وتابعت: "تعزيز التعاون في التجارة البحرية بين الدول التي تتشارك في بحر الصين الجنوبي، ليس ضروريا فقط لتنفيذ استراتيجيات التنمية البحرية الوطنية للدول الإقليمية ولكنه مفيد لازدهار الاقتصاد الإقليمي والتجارة الدولية".

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من تقارير و تحليلات